مقالات

أي العبادة أفضل؟

الدعاء في اللغة أن تميل الشيء إليك بصوتٍ وكلامٍ يكون منك، ويقال دعوت فلاناً أي ناديته وطلبت إقباله. ودعاء العبد ربه جلَّ جلاله هو طلب العناية منه، واستمداده المعونة منه[1]. والدعاء بعبارة بسيطة هو التحدّث إلى الله تعالى، ويعني أن ينادي الإنسان ربّه ويناجيه ويكلّمه، فهو وسيلةٌ لارتباط الإنسان بالله عز وجل. إن الإحساس بالقرب من الله وبثّ هموم القلب بحضرته، وتمجيده وتحميده، والتودّد إليه، وطلب الحاجات منه، كلّها من مصاديق الدعاء.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “الدّعاء مُخُّ العبادة ولا يُهْلَكُ مع الدُعاء أحد”[2].

يكشف لنا هذا الحديث المبارك عن جوهر العبادة وحقيقتها التي تتجلّى في إقبال العبد المحتاج على المعبود الغني: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[3].

وهذا الإقبال هو التعبير الحيّ عن الصلة الموضوعية بين الخالق والمخلوق، وعن شعور الإنسان بحاجته الدائمة إلى ربّه تعالى في جميع أموره، واعترافه الخاضع بالعبوديّة له تعالى، والتي تتجسّد في الشعور بالارتباط العميق باللّه سبحانه، فجوهر العبادة إذن هو تحقيق الارتباط والعلاقة بين الخالق والمخلوق، والدعاء هو أوسع أبواب ذلك الارتباط وتلك العلاقة، فهو إذن مخّ العبادة وحقيقتها وأجلى صورها.

وقد عدّ الله تعالى الإعراض عن الدعاء استكباراً عن العبادة: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[4]. وفي تفسيره للآية الشريفة قال الإمام الصادق عليه السلام: “الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي‏”[5].

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “أفضل العبادة الدُّعاء وإذا أَذِنَ الله لعبد في الدّعاء فَتحَ له أبواب الرّحمة إنّه لن يهلك مع الدّعاء أحد”[6].

وعن الإمام الباقر عليه السلام عندما سُئل: أي العبادة أفضل؟ أنه قال: “ما من شيءٍ أحبّ إلى الله من أن يُسأل ويُطلب ما عنده، وما أحدٌ أبغض إلى الله عزّ وجلّ ممّن يستكبر عن عبادته ولا يسأله ما عنده”[7].

إذاً، الدعاء في نفسه عبادة، فهما يشتركان في حقيقة واحدة هي إظهار الخشوع والافتقار إلى الله تعالى. وهو غاية الخلق وعلّته، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[8]، وقال تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾[9].
فالدعاء والعبادة يعكسان الفقر المتأصل في كيان الإنسان إلى خالقه تعالى مع إحساسه العميق بالحاجة إليه والرغبة فيما عنده.

وطالما أن هدف العبادة تحقيق الرابطة الحقيقية التي ينبغي أن تكون بين العبد وربه، على أساس اعتراف العبد باحتياجه المطلق إلى الغني المطلق وإقراره بفقره وفاقته وعجزه ولا شيئيته أمام المالك الذي لا ينفد ملكه وسلطانه، فإن الدعاء هو من أبرز العبادات التي تحقّق هذا الهدف لأن الدعاء مَظْهَرُ فقر الإنسان إلى الله تعالى واحتياجه إليه، عن الإمام الصادق عليه السلام: “عليكم بالدعاء فإنكم لا تتقرّبون بمثله”[10].

وقد يتجاهل البعض دور الدعاء في الحياة ويظنّ أنه لا يمكن أن يغيّر شيئاً، وقد يتوهّم أنه لا أثر واقعي للدعاء على مجريات الأمور نظراً للعوامل والظروف الموضوعية المحيطة به والتي يراها بالغة التأثير، ولكن هذا الاعتقاد مخالف للحقيقة ومجاف لها.
فالدعاء هو علّة ضمن سلسلة العلل والعوامل، وهو ليس نقضاً لهذه السلسلة ولقانون العلّية في الخلق.

فالله الذي أوجد قانون الجاذبية الأرضية وجعل الأجسام تسقط إلى الأرض، والذي جعل الكواكب في المنظومة الشمسية تدور حول الجسم الأكبر وهو الشمس، والذي جعل قانون الذرّة والقوانين المختلفة المرتبطة بالحياة المادية، هو نفسه الذي جعل قانون ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[11] ووضعه في سلسلة العلل والعوامل وجعل له تأثيراً وفاعلية في الوجود والحياة، طبعًا بشروطه التي نتناولها لاحقاً.

روح العبادة، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


[1] علي موسى الكعبي، الدعاء حقيقته وآدابه وآثاره، ص9.
[2] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج90، ص300.
[3] سورة فاطر، الآية 15.
[4] سورة غافر، الآية 60.
[5] الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص467.
[6] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج7، ص31.
[7] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج90، ص294.
[8] سورة الذاريات، الآية 56.
[9] سورة الفرقان، الآية 77.
[10] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج7، ص32.
[11] سورة غافر، الآية 60.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى