مقالات

الخواص وخيار الثورة

كانت الأوضاع في عهد الإمام الحسين عليه السلام لا خيار فيها إلا خيار الثورة، على العكس من زمن الإمام الحسن عليه السلام الذي فيه خياران خيار الشهادة وخيار الحياة، وكان البقاء على قيد الحياة أكثر ثواباً وجدوى ومشقّة من القتل والإمام الحسن عليه السلام اختار هذا المسلك الوعر.ولكن الوضع لم يكن على هذه الصورة في عهد الإمام الحسين عليه السلام ولم يكن هناك إلا خيار واحد والبقاء على قيد الحياة الذي يعني عدم الثورة ما كان له آنذاك أي معنى، كان لا بد له من الثورة، سواء انتهى به الأمر إلى القبض على الحكم أم كان مصيره إلى الشهادة، كان عليه أن يرسم الطريق ويركّز لواء الدلالة عليه، ليكون واضحاً أن الأمور إذا بلغت هذا الحد لا بدّ وان يكون التحرك في هذا الاتجاه.

وعندما ثار الحسين عليه السلام لم يأت الكثير من هؤلاء الخواص لنصرته مع ما كانت له من منزلة عظمى في المجتمع الإسلامي!لاحظوا مدى الضرر الناجم عن وجود هؤلاء الخواص في المجتمع، الخواص الذين يرجحون دنياهم حتى على مصير العالم الإسلامي لقرون مقبلة، مع ما كان للإمام الحسين من مكانة وشهرة.

كنت انظر في قضايا ثورة الإمام الحسين عليه السلام وحركته من المدينة، ولاحظت انه في الليلة التي سبقت مسيره من المدينة كان عبد الله بن الزبير قد خرج من المدينة أيضاً، وفي الحقيقة كان كلاهما في وضع واحد، ولكن أين الإمام الحسين عليه السلام من عبد الله بن الزبير؟ فحديث الإمام الحسين وكلامه وخطابه أجبر والي المدينة آنذاك ـ وهو الوليد ـ على أن يرقق من كلامه ولا يتبع الغلظة مع الحسين عليه السلام ، وما إن تفوّه مروان بكلمة، إلاّ والحسين يردّ عليه غاضباً، ولا حيلة لمروان إلا السكوت ذليلاً.

هؤلاء الأشخاص أنفسهم ذهبوا وحاصروا دار عبد الله بن الزبير، فأخرج إليهم أخاه، فاستأذن منهم أن يسير معهم إلى دار الإمارة في تلك اللحظة، فأهانوه وهددوه إن هو لم يخرج إليهم قتلوه، حتى خضع لهم وتوسّل إليهم في أن يأذنوا له أن يرسل أخاه وغداً يأتي بنفسه.

ومع أن عبد الله بن الزبير كان شخصية بارزة أيضاً إلا أن موقفه كان يختلف إلى هذا الحد مع موقف الإمام الحسين عليه السلام ولم يكن أحد يتجرّأ على التصرف مع الإمام الحسين أو مخاطبته بهذا الأسلوب لما له من حرمة وما يتسم به من عظمة وشخصية وهيبة وقوة وروحية.

وفي طريقه إلى مكة كان كل من يلقاه ويتكلم معه يخاطبه بالقول:جعلت فداك، أو بأبي أنت وأمي، أو عمي وخالي فداك، هكذا كانوا يكلمون الإمام الحسين، وهكذا كانت له مكانة ممتازة وبارزة في المجتمع الإسلامي.

فقد جاءه عبد الله بن مطيع وهو في مكة وقال له:”يا ابن رسول الله، إن قتلت لنسترقن من بعدك.أي أن هؤلاء القوم يحجزهم عن أذانا خشيتهم لك وهيبتهم منك، وأنك إذا ثرت عليهم وقتلت اتخذونا رقيقاً لهم.

كانت للإمام الحسين عليه السلام مكانة وعظمة يخضع لها حتى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر وحتى عبد الله بن الزبير ـ مع انه لم يكن ينظر للإمام الحسين بعين الارتياح ـ كان يبدي له عناية التبجيل والإكرام.

إن جميع الأكابر والخواص من أنصار الحق، أي الذين لم يكونوا إلى جانب الحكومة الأموية ولم يدخلوا جبهة الباطل، وحتى من بينهم الكثير من الشيعة الذين يقرّون بإمامة أمير  المؤمنين عليه السلام ويعتبرونه الخليفة الأول شرعاً، هؤلاء بأجمعهم حينما أحسّوا ببطش السلطة الحاكمة.تخاذلوا رغبة في الحفاظ على أنفسهم وأموالهم ومناصبهم، ونتيجة لتخاذل هؤلاء، مال عوام الناس إلى جانب الباطل.

فلو نظرنا إلى أسماء أهل الكوفة الذين كاتبوا الإمام الحسين عليه السلام ودعوه للقدوم إليهم، وكان كلهم طبعاً من طبقة الخواص ومن أكابر القوم ووجهاء الناس، حيث كان عدد الرسائل هائلاً وبلغ مئات الصفحات، وربما ملأت عدة خروج، والذين كتبوها غالباً مع الأعيان والوجهاء، يتبين من خلال لهجة تلك الرسائل كم عدد الخواص من أنصار الحق ومن كان على استعداد للتضحية بدينه من أجل دنياه ومن كان حريصاً على التضحية بالدنيا من أجل الدين، وهذا ما يمكن أن يُستشف من خلال الرسائل.

ولكن بما أن عدد الذين كانوا يميلون إلى التضحية بالدين في سبيل الدنيا كان أكبر، آلت النتيجة إلى مقتل مسلم بن عقيل في الكوفة بعدما كان قد بايعه ثمانية عشر ألفاً من أهلها، وبعد ذلك خرج منها عشرون أو ثلاثون ألفاً لقتال الإمام الحسين عليه السلام بكربلاء.

معنى هذا أن حركة الخواص تجلب في أعقابها حركة العوام، لا أدري هل عظمة هذه الحقيقة التي تلازم الناس الواعين على الدوام، تتبين لنا بشكل واضح صحيح أم لا؟ لا بد وأنكم سمعتم بما جرى في الكوفة إذ كان القوم قد كتبوا الرسائل إلى الإمام الحسين عليه السلام أن أقدم علينا معززاً، فأوفد إليهم مسلم بن عقيل يطلع على حقيقة الموقف:إن كان خيراً سار إليهم بنفسه.

سار مسلم إلى الكوفة، ودخل دور كبار الشيعة، وتلا عليهم كتاب الإمام الحسين عليه السلام إليهم، فأخذ الناس يفدون عليه زرافات زرافات ويعلنون عن ولائهم، وكان النعمان بن بشير والي الكوفة آنذاك شخصاً ضعيفاً ومسالماً، فأعلن أنه لا يقاتل إلا من يقاتله، ولم ينهض لمجابهة مسلم بن عقيل، فرأى الناس أن المجال مفسوح أمامهم، فجاءوا إلى مسلم وبايعوه.

بعث بعض المؤيدين للباطل ـ من أنصار الأمويين ـ رسالة إلى يزيد يعلمونه فيها إن كانت له في الكوفة حاجة فليولي عليها رجلاً حازماً، وأن النعمان بن بشير لا طاقة له على مجابهة مسلم بن عقيل.

كتب يزيد إلى عبيد الله بن زياد الذي كان والياً على البصرة حينذاك يعلمه فيها بأنه عيّنه والياً على الكوفة مع احتفاظه بولاية البصرة، وانطلق عبيد الله من ساعته يحثّ السير من البصرة إلى الكوفة، ويتضح دور الخواص أيضاً من خلال مجيئه إلى هناك.

وصل عبيد الله إلى مشارف الكوفة ليلاً، وما أن رأى الناس رجلاً ملثماً قادماً ومعه الخيل والعدّة، حتى ظنّه العوام انه الإمام الحسين، فتقدموا إليه بكل بساطة وحيُّوه قائلين: ” السلام عليك يا ابن رسول الله، هذه صفة عوام الناس، ليست لأحدهم قدرة على التحليل أو النظر في الأمر، فما أن رأوا شخصاً قادماً ومعه الخيل والعدة حتى ظنوه الإمام الحسين عليه السلام حتى قبل أن يتحدث معهم بكلمة واحدة، وأخذ الجميع يردد انه الإمام الحسين، كان الجدير بهم أن يتأملوا ليعرفوا من هو.

لكن هذا القادم لم يلتفت إلى الناس، وسار إلى دار الإمارة وعرّفهم بنفسه ودخل القصر، وبدأ يخطط من هناك للقضاء على وثبة مسلم بن عقيل، وتركزت مساعيه على استخدام أشد أساليب الضغط والتهديد والتعذيب ضد أنصار مسلم بن عقيل، واحتال على هاني بن عروة واستقدمه إلى القصر، وشجّ رأسه ووجه، ولما احتشد بعض الناس حول القصر نجح بتفريقهم بأساليب الحيلة والكذب، وهنا أيضاً يتضح دور الخواص الفاسدين الذين يسمون بأنصار الحق، وهم الذين عرفوا الحق وميزوه، لكنهم رجحوا دنياهم على الدين.

وبعد أن سار مسلم بن عقيل بحشد كبير من أنصاره ـ جاء في كتاب ابن الأثير أن عددهم بلغ ثلاثين ألفاً، والذين أحاطوا بداره فقط بلغ عددهم أربعة آلاف يحملون السيوف دفاعاً عنه، كان هذا في اليوم التاسع من ذي الحجة ـ سارع ابن زياد إلى بث بعض خواص الباطل بينهم لأجل إثارة الخوف والرعب فيهم، ويشيعوا بينهم أن لبني أمية كل شيء: السلاح والمال والقوة، وإن هؤلاء لا شيء عندهم، فاستشرى الذعر بين الناس وأخذوا يتفرقون عنه تدريجياً، وما أن حان وقت صلاة العشاء حتى لم يبق مع مسلم احد، ونادى منادي ابن زياد:يجب أن يحضر الجميع إلى مسجد الكوفة عند صلاة العشاء ليصلّوا معه!وجاء في المصادر التاريخية أن المسجد امتلأ بالناس للصلاة خلف ابن زياد.

*الثورة الحسينية,نشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية,الطبعة الاولى نيسان,2001/1422-ص:46

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى