مقالات

لماذا تعتبر الدنيا رحم الروح الإنسانية؟

ثمّة أوجه للشبه وأخرى للتمايز بين انتقال الإنسان من هذا العالَم إلى عالَم آخر، وولادة الطفل من رحم أمّه، فأوجه التمايز بينهما تكمن في أنّ الاختلاف بين الدنيا والآخرة أعمق وأكثر جوهرية من الاختلاف بين عالم رحم الأم وخارجه. فعالَم الرحم وخارجه كلاهما من عالم الطبيعة والحياة الدنيا، أمّا عالمي الدنيا والآخرة فهما نشأتان متمايزتان ونمطان مختلفان من أنماط الحياة بينهما فروق جوهرية.

أمّا أوجه الشبه بين هذه الولادة وذاك الانتقال فهي تكمن في بيان طبيعة اختلاف الأوضاع الحياتية، فالطفلُ يتغذّى بواسطة حبل المشيمة وهو جنينٌ في رحم أمّه، لكن هذا الحبل يُقطع عندما يولد لتُصبح تغذيته عن طريق الفم وقنوات الجهاز الهضمي، وتُخلقُ فيه الرئتان وهو في الرحم، لكنّه لا يستفيد منهما إلا بعد خروجه من الرحم، بل إنّ أبسط استفادة منهما وهو في الرحم تؤدّي إلى موته، ويستمرّ حاله على هذا المنوال إلى اللحظة الأخيرة من إقامته في الرحم، فإذا خرج منه بدأت الرئتان والجهاز التنفّسي بالعمل فوراً وبصورة متواصلة، لأنّ أبسط توقّف فيها يُعرّضه لخطر الموت!

أجل، فالتغيّر في النظام الحياتي للطفل يتغيّر بهذه الحدّة، فهو يعيش قبل الولادة بنظام حياتي متمايز بالكامل عن نظام حياته بعدها، والجهاز التنفسّي يُخلق فيه وهو مقيم في رحم أمّه، ولكن ليس من أجل أن يستفيد منه أثناء إقامته بالرحم، بل بهدف إعداده مسبقاً للحياة بعد مرحلة الرحم وهكذا الحال مع أجهزة البصر والسمع والذوق والشم، فهي تُخلقُ فيه بكلّ تعقيداتها أثناء مدّة إقامته في رحم أمّه، لكي يستفيد منها في المرحلة اللاحقة من حياته، لا أثناء مدّة إقامته في الرحم.

وهكذا هو حال الدنيا مقارنة بعالَم الآخر، فالدنيا هي بمثابة الرحم الذي يُقيم فيه الإنسان لإعداده الحياة الأخرى، لأنّ في هذه الدنيا تصنع الصورة والأجهزة المعنوية التي يستفيد منها الإنسان ويعيش بها في حياته الأخرى.

والأجهزة الإعدادية المعنوية للإنسان هي: البساطة والتجرّد ورفض التجزّؤ والتشتّت الذّاتي والثبات النسبي لـ “أنا” الإنسان وهويّته الإنسانية.

إنّ آمال الإنسان العريضة غير المحدودة وأفكاره بآفاقها الواسعة التي لا حدّ لها، هي أدوات تناسبُ حياة أوسع نطاقاً من حياته الدنيا، بل هي حياة خالدة أبدية، وهذه الأدوات هي التي تجعل الإنسان “غريباً” عن هذا العالَم الترابي الفاني وغير متجانس معه، وهي التي جعلت حاله حال قصبة “الناي” التي قطعوها عن أخواتها ونقلوها بعيداً عن وطنها، فأخذت تئنّ في غربتها أنيناً مفجعاً يبكي النساء والرجال على حدٍّ سواء، وتبحث باستمرار عن صدر غريب مثلها تبثّ إليه شكوى الفراق وألم الاشتياق. وهذا هو السبب الذي جعل الإنسان يرى نفسه “ملك سدرة المنتهى والأفق المبين”[1]، ويرى العالم “سجن المحنة”[2] بالنسبة إليه أو يرى نفسه “طائر روضة القدس”[3] ويرى الدنيا “شبكة الحوادث”[4].

يُخاطب الله تبارك وتعالى عباده الذين جهّزهم بهذه الأدوات، منبّهاً إلى الغاية من خلقهم وتجهيزهم بها: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾[5].

لقد خُلق الإنسانُ مجهّزاً بكلّ هذه الأدوات المناسبة لعالَمٍ أوسع أفقاً من عالَم الدنيا، ولو لم تكن له رجعة إلى هذا العالَم الأوسع، فإنّ حاله سيكون بالضبط كحال الجنين الذي لا يكون له عالمٌ أوسع من عالَم الرحم، وهذا يعني موت جميع الأجنّة فور انتهاء مدّة الإقامة في الرحم، فتكون النتيجة أنّ خلق جميع أجهزة البصر والسمع والشم والدماغ والأعصاب وأجهزة التنفّس والهضم وغيرها من الأجهزة التي لا يستفيد منها الجنين في رحم أمّه حيث تكون حياته فيه نباتية، هو خلق عبثي, لأنّ الجنين لن يستفيد منها أبداً!

إذن، يتّضح أنّ الموت عبارة عن نهاية لمرحلةٍ من حياة الإنسان وبداية لمرحلة جديدة منها، فهو موت بالنسبة للحياة الدنيوية وولادة بالنسبة للحياة الأخروية، مثلما أنّ ولادة الطفل تعني موتاً لمرحلة حياته في الرحم، وولادة نسبة إلى مرحلة حياته في عالم الدنيا.

الإنسان والحياة ، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


[1] تعابير ورموز مستخدمة في الشعر الحكمي الفارسي للتعبير عن المعنى الذي يتحدّث عنه المؤلّف.
[2] م.ن.
[3] م.ن.
[4] م.ن.
[5] سورة المؤمنون، الآية 115.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى