مقالات

كيف يرى الإنسان الإلهي العالم؟

إنّ العالَم الذي يراه الإلهي الحقيقي العارف بالدِّين يتميّز بأنّه (منه) أي إنّ حقيقة العالَم تساوي كونه (منه)، ولا يعني هذا أنّ للعالَم حقيقة يُمكن أن تُنسب أو تُضاف (إليه) مثل حقيقة انتساب الابن لأبيه، ولا كإضافة أيّ شخص إلى آخر، ولا انتساب حقيقة اختراع ما إلى مخترعه وصانعه، بل إنّ حقيقة العالَم وماهيّته هي (هو) نفسه، وهي الصدور نفسه (عنه)، والتعلّق والارتباط نفساهما (به)، والإضافة نفسها (إليه). وهذا هو معنى (الخلق) ومفهومه، ومعنى أن يكون العالَم كلّه (مخلوقاً) من مخلوقات الله.

وبالإضافة إلى كون العالم الذي يراه الإلهي ذا ماهية تتّصف بأنّها (منه) فإنّها تتّصف كذلك بأنّها (إليه)، بل إنّ هاتين الصفتين متلازمتان لا تنفكّ إحداهما عن الأخرى. إنّ الوجود يسير من النقطة التي بدأ منها في قوس نزولاً ليعود ثانية في قوس صعوداً إلى النقطة نفسها. وفي هذا يقول مولوي:
تتّجه الأجزاء نحو الكلّ             فالبلابل تعشق وجه الورد
ما يأتي من البحر إليه يعود          فمن حيثما جاء إليه يعود
من المبدأ سيول جارفة              ومن جسدنا روح يُسَيّرها العشق

وهذا هو المعاد الذي أكثر الأنبياء ذكره والحثّ على الإيمان به.

إنّ العالم الإلهي عالم خير وجود ووحدة وانسجام، ويتبع ذلك الشر والبخل والتفرق والتضاد. غير أنّ لهذه الحالات التبعية دوراً أساسياً في جريان الخير والجود، وفي ظهور الوحدة والانسجام.

هذا العالم عالم شاعر، فبالإضافة إلى قوانين المادة الجامدة الصلبة ثمّة قوانين أُخرى تحكمه أيضاً. فكما أنّ الإنسان مثلاً، من حيث أجهزته الجسمية، تتحكّم فيه قواعد وضوابط، وقد تمرض هذه الأجهزة البدنية وقد تشفى بدواء مادّي، فإنّه في الوقت نفسه، من حيث روحه التي فيه، وفكره، وعقله واستعداده للتلقّي، يقع تحت سيطرة الروح ويجري فيه حكمه وقوانينه، والعلّة الروحية تُسبّب المرض الجسمي كما أنّ المرض الجسمي قد يشفي الروحية.

العالم كلّه كذلك أيضاً هنالك في العالَم مجموعة من العلل من الأفعال وردودها، تتحكّم في قوانين المادة الجامدة الصلبة، وهي قوانين وليدة روح العالَم وقواه المدبّرة له.

ولهذا فإنّ العالم يعني بخير الإنسان وشرّه، يحمي الأخيار وطلّاب الحق والمدافعين عنه، ويقضي على دعاة الباطل. إنّ سرّ الدُّعاء والاستجابة كامن في هذه الصفة من صفات الدّنيا.

إنّ العالَم الذي يعرفه الإلهي عالَم متكامل موجّه، إنّ كلّ كائن في أيّ موقع كان يتمتّع بمقدار من الهداية – أو الوحي كما يُسمّيه القرآن – يتناسب مع وجوده. ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾[1].

إنّ المجتمع البشري لا يستهين من الهداية. ومن هنا أصل النبوة أيضاً.

وهذه الدنيا دنيا لا يضيع فيها شيء ويبقى الإنسان قرين عمله وما أن تحين الساعة حتى يحضر الناس جميعاً إلى معرض الأعمال: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾[2].

إنّ العالَم الذي يظهر في المنظور الإلهي، كلّ لا يقبل التجزئة، أجزاؤه وأعضاؤه تُشبه أجزاء الجسد وأعضاؤه كلّها مترابطة وتؤلّف بمجموعها (وحدة) واحدة.

وعلى ضوء هذه النظرة إلى العالَم، فقد خلق الله بإرادته وبقضائه وقدره العالَم في نطاق من النظم والقوانين والسُّنن. إنّ القضاء والقدر الإلهي يقضي أن تجري الأمور بعللها وأسبابها المعينة لها، ليس غير.

والإنسان، في هذا المنظور، ولكونه يتمتّع بجوهر روحي غيبي، فإنّه يتمتّع لذلك بإرادة حرّة يستطيع بها أن يتحرّر من قيود المحيط وقيود المجتمع وقيود الطبيعة الحيوانية إلى حدٍّ كبير، وهو لهذا مسؤول عن نفسه وعن مجتمعه.

الإنسان والحياة ، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


[1] سورة الأعلى، الآيتان 2 – 3.
[2] سورة الزلزلة، الآيات 6 – 8.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى