مقالات

الربوبية وشؤونها

الرب في الأصل التربية والسوق التدريجي نحو الكمال، وله لوازم أخرى مثل المالك والسيد والمدبر والمربي.

ويطلق هذا المعنى في الأصل على الله تعالى، من حيث إنه مالك الكل، ومدبر الكل، وموجد الكل، ويطلق على غيره أيضا، كما في قوله تعالى: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً﴾[1].

وقوله تعالى:﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ﴾[2].

وقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّه﴾[3].

ومن هذه الجهة، أطلق على أبناء الزوجة من زوج آخر اسم ربيب، كما في قوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ﴾[4].

ونظرا لكثرة المفاهيم المرتبطة بمفهوم الربوبية، وكونها متعلقة ومنتزعة من علاقته تعالى بمخلوقاته، على نحو يكون كل وجودها واستمرارها، وجميع شؤونها مرتبطة به تعالى، يمكن للذهن أن ينتزع مفهوم الربوبية العام وإطلاقه عليه تعالى.

ولما كان المأخوذ في مفهوم الربوبية هذه العلاقة بينه وبين مخلوقاته تعالى، يتضح أنه معنى إضافي ونسبي، فيكون من صفات الأفعال، لا من صفات الذات.

فالربوبية على قسمين: تكوينية وهي عامة لجميع الموجودات دون استثناء، وتشريعية وهي تختص بالموجودات التي تمتلك الشعور والإختيار والإدراك، وهي التي يقع عليها التكليف. ويرتبط بالربوبية بهذا المعنى الثاني إرسال الأنبياء، وإنزال الكتب السماوية، وتعيين الوظائف والأحكام، وتشريع القوانين.

والآيات الشريفة التي بينت أنه تعالى هو الرب الحقيقي، ومالك الأمر الواقعي دون سواه تفوق حد الحصر.

لا خلاف بين الإلهيين، بل بين العقلاء القائلين بوجود واجب الوجود على العموم، في أنه تعالى واحد،  يستحيل التعدد عليه، كما أنه لا خلاف بينهم في أنه هو الخالق وحده، خصوصا أولئك الذين عاشوا في صدر الإسلام وعاصروا زمن البعثة النبوية الشريفة، بما فيهم الوثنيون أنفسهم، كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّه﴾[5].

وقوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾[6]. وتدل عليه أيضا الأدلة العقلية، المتقدمة في التوحيد الذاتي.

إنما الخلاف والإشكال في الربوبية والتدبير، فإنهم كانوا يرون أن الأجرام السماوية، والأجسام الفلكية هي المتصرفة في شؤون الكون والمديرة له، دون أن تكون شريكة في خلقه، وهو ما عبر عنه إبراهيم (عليه السلام) في احتجاجه على قومه، حين استخدم الربوبية في الاستدلال، دون الخالقية أو الألوهية، في إشارة لطيفة منه (عليه السلام) إلى أن الخلاف بينه وبينهم راجع إلى مقام الربوبية، ونسب إليهم الشرك فيه، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾[7].

وهذا ما يفسر شدة التركيز في الآيات القرآنية المباركة على مقام الربوبية، بحيث لا تخلو سورة من سوره الشريفة، بل كل صفحة من صفحاته، من الحديث عن أنه تعالى هو الرب الحقيقي دون سواه، بل ان أول آية فيه بعد البسملة هي قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ في فاتحة الكتاب.

كما أن أول سورة نزلت على قلب النبي، تقول: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[8].

ومعنى التوحيد في الربوبية، هو التوجه إليه تعالى دون سواه، في العبادة وقضاء الحوائج، وتدبير الأمر، والإعانة على حل المشكلات، وكل ما يتعلق بحياة الإنسان العملية، ولهذا نرى في كثير من الآيات الشريفة، حين يستنكر على المشركين شركهم، يقرنه بالخالقية، كقوله تعالى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾[9].

وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾[10].

وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ﴾[11].

ولا تخلو هذه الآية المباركة من إشارة لطيفة، إلى أن مقام الربوبية والتدبير يمكن أن ينسب لغير الله تعالى، لكن في طول ربوبيته وولايته، من دون أن يؤثر ذلك في مقام ربوبيته المطلقة، وأنها حق له تعالى وحده، لأنه راجع في حقيقة الأمر إلى إطاعته نفسه، وربوبية الآخرين وتدبيرهم بجعل منه تعالى، ويدخل في هذا الباب موضوع الشفاعة ونحوها.

سماحة الشيخ حاتم اسماعيل (رحمه الله)


[1] سورة يوسف، آية: 41
[2] سورة يوسف، آية: 42
[3] سورة التوبة، آية: 31
[4] سورة النساء، آية: 23
[5] سورة الزمر، آية: 38
[6] سورة الزخرف، آية: 87
[7] سورة الأنعام، آية: 76-78
[8] سورة العلق، آية: 1
[9] سورة الأعراف، آية: 191-192
[10] سورة الرعد، آية:  16
[11] سورة فاطر، آية: 40

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى