مقالات

التفويض وصفة نبوية

“إنّ التفات الإنسان العميق إلى مخاطر الدنيا وشدائدها من شأنه أن يملأ حياته بالتعاسة والمرارة، ذلك أنّه سيحتمل وقوع المصيبة أو الشدّة في كلّ لحظة. فالذين تشغل هذه الأمور أذهانهم كثيراً مّا يُصابون بشكل من أشكال التبعثر النفسيّ. وعلى أيّة حال فإنّ حياة كهذه تكون محفوفة بألوان الاضطراب والقلق إلى حدّ ذهاب الوجوديّين[1] إلى القول: إنّ الاضطّراب يقوّم إنسانيّة الإنسان، وإنّ الذي لا يشعر بالاضطّراب ليس بإنسان”.

ومن هذا المنطلق فإنّ علماء النفس يقترحون على المرء من أجل الفرار من المآسي والأمراض النفسيّة الركون إلى التغافل وعدم التفكير بتلك الأمور والانشغال باللذّات والكلام والضحك والتسلية! هذه حصيلة الوصفة التي يصفها علماء النفس من أجل راحة الإنسان.

أمّا أنبياء الله عليهم السلام فهم يُقدّمون وصفة أخرى. إنّهم يقولون: “من أجل طرد ما ليس في محلّه من القلق والاضطّراب عليك أن تعرف ماهيّة هذا العالَم. عليك أنْ تعلم أنّ هذا العالم ليس هو إلاّ معبراً مؤقّتاً وهو يشبه المختبر. فمصائب الدنيا وصعابها هي مقدّمة لراحة أبديّة ولذائذ لا نهاية لها يُمكنك الظفر بها. فإنْ استطعت السيطرة على هذه المصاعب وتوظيفها على النحو الصحيح فستستطيع نيل السعادة الأبديّة. فنسبة عالَم الدنيا إلى عالَم الآخرة هو أقلّ من نسبة لمح البصر إلى تعمير مائة عام. أفيقلق الشخص الذي يعمّر مائة عام كيف ستمرّ عليه لحظة أو مقدار رمشة العين؟!

فإنْ عرف المرء ماهيّة هذا العالَم وأمّل نيل السعادة الأبديّة في العالم الأبديّ عبر أداء ما عليه من تكليف وكيف أنّه سيذهب إلى حيث لا وجود لأيّ شكل من أشكال النَّصَب والمعاناة، حيث: ﴿لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾[2]، فسوف يعدّ نفسه لتحمّل الصعوبات العابرة. فلو علم العامل أنّه إذا اجتهد في عمله من الصباح حتّى المساء فسيحصل على أضعاف الأجرة المتعارفة التي يحصل عليها العمّال، فإنْ أحبّ الظفر بهذه الأجرة فستتحوّل صعوبة العمل ومعاناته عنده إلى حلاوة. فهذا أوّل الطريق الذي يرسمه الأنبياء لدفع اضطّراب الإنسان وقلقه.

بالطبع إنّ هذا الحلّ لا يُمثّل دواء فحسب بل هو بيان لحقيقة. فمن جملة الطرق التي يتّبعها الأنبياء لعلاج أمراض البشر هي “العلاج بالحقيقة”، أي عندما يُدرك مخاطبهم الحقيقة فإنّه لا يعود بحاجة إلى الدواء. والآن فلنضمّ المباحث المطروحة في المحاضرة الماضية إلى هذه المسألة، أي: بالإضافة إلى ذلك فإنّ الله تعالى يخصّ أولئك الذين يفيدون من هدايته في حياتهم بسمات خاصّة حتّى في الحياة الدنيا[3].

التفويض هو أنجع وصفة للراحة
إنّ أنجع وصفة في هذا الباب هي وصفة “التفويض”، وهذا ما تُبيّنه الجملة الرائعة التي يبتدأ بها كتاب شرح الأمثلة من كتاب “جامع المقدّمات” حيث يقول: “أوّل العلم معرفة الجبّار وآخر العلم تفويض الأمر إليه”، وهذه أرقى نتيجة يُمكن أن يحظى بها الإنسان من معرفة الله، فإذا بلغ المرء هذا المقام فسيكون أكبر همّه هو أداء ما عليه من تكليف وهو يؤمن بأنّ هناك من يُرتّب على ذلك أفضل النتائج ويختار له أحسن الطرق. فهو يعلم عندما يُفوّض إليه أمره أنّه إذا كان المرض أصلح له، فسيمرضه وإذا كانت السلامة أفضل له، فهو لا يدعه يمرض أو يبقى على مرضه[4].

المهتدون، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


[1] الوجوديّون: هم المنادون بالفلسفة الوجوديّة (existentialism) وهي فلسفة معاصرة تؤكّد على حرّية الفرد ومسؤوليّته.
[2] سورة فاطر، الآية 35.
[3] من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 15 آب، 2011 م.
[4] من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 15 آب، 2011 م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى