مقالات

لماذا التنشئة بالنموذج أفضل ما يربي الأطفال؟

عرّف الراغب الأصفهاني القدوة بأنّها: “الحالة الَّتي يكون الإنسان عليها في اتّباع غيره إن حسناً وإن قبيحاً”[1]. وتعتبر التربية بالقدوة من خلال تقديم النموذج الحسيّ من أفضل أساليب التربية للطفل، وذلك للأمور التالية:
أولاً: النزعة الحسيّة الموجودة عند الطفل بشكل خاصّ.
ثانياً: امتلاك الطفل قدرة عالية على التقليد والمحاكاة.
ثالثاً: مؤثّرية تجسّد المعاني والقيم في النموذج الحسّي على المشاهد والمتلقّي.

ومن هنا تأتي الأهمية بأن يكون الأب أو الأمّ قدوة حسنة للطفل، يتبعهما في أقوالهما وأفعالهما وأخلاقهما وتصرّفاتهما، وهذا يجعلهما أمام مسؤولية مراقبة نفسيهما وإظهار الفعل الحسن والإيجابيّ أمام الطفل، وإخفاء الفعل القبيح والسلبيّ في المقابل.

وذلك لأنّ الطفل لا يُمكنه – بينه وبين نفسه – تمييز السبب الذي يدعو أهله إلى نهيه عن سلوكٍ وإتيان مثله بأنفسهم، كأن ينهى الأب أو الأم مثلاً أبناءهم عن الكذب أو السب والشتم لأخيه…إلخ، في الوقت الذي يُمارس فيه الأهل أنفسهم الشتم والسب والصراخ و… في المنزل.

فالطفل بالإضافة إلى قدرة المحاكاة والتقليد في حدّ نفسها لديه تعلّق شديد وارتباط قويّ بوالديه، ممّا يزيد من نسبة الاقتداء السلوكيّ بهما.

يقول الإمام روح الله الخمينيّ قدس سره في هذا السياق: “إنّ الأطفال هم دائماً أو غالباً مع الأبوين، فلا بدّ أن تكون تربيتهما عملية، بمعنى أنّنا لو فرضنا أنّ الأبوين ليسا متّصفين بالأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة فلا بدّ من أن يُظهرا في نفسيهما الصلاح أمام الطفل، ليكون الأطفال عمليّاً مهذّبين ومربّين، ولعلّ هذا بنفسه يكون مبدأ لإصلاح الأبوين، لأنّ المجاز قنطرة الحقيقة، والتطبّع طريق الطبع….. إنّ الأبوين الصالحين الحَسني التربية هما من التوفيقات القدريّة والسعادات غير الاختيارية التي تكون أحياناً من نصيب الطفل، كما أنّ فسادهما وسوء تربيتهما أيضاً من الشقاوات والاتفاقات القدرية التي تُلازم الإنسان من دون اختياره”[2].

الانضباط الذّاتيّ والانضباط الموضوعيّ الخارجيّ
إنّ التربية بالنموذج السلوكيّ تُساعد الطفل على الانضباط الذّاتيّ والخارجيّ.

الانضباط الذاتيّ: ويقصد منه الفعل والسلوك الذي يصدر من الطفل والذي يكون منشأه الفطرة السليمة فيقوم بالسلوك الحسن نتيجة اقتناعه النابع من الداخل فضلاً عن امتناعه عن العمل السيّئ بقناعة داخلية لما يرى من قيم أخلاقية متجسّدة في سلوك والديه، فالتربية من خلال تقديم النموذج العمليّ المتجسّد في المربّي (الوالدين) تزرع في الطفل معنويات عالية توجّهه توجيهاً صالحاً دون أن تفرض عليه الأمور بطريقة إلزامية أو تشعره بأنّها تسلبه شيئاً من حريته، بل يقوم بأداء العمل الحسن والابتعاد عن العمل السيّئ بإرادته وبقناعة ذاتية دون أي ضغوطات خارجية. ويُطلق القرآن الكريم على عملية الانضباط الذّاتي اسم “التزكية”.

الانضباط الموضوعيّ الخارجيّ: الذي يُعبِّر عن قوّة خارجية، تُحدّد السلوك وتضبطه في دائرة الحسن، وتتمثّل هذه القوّة الخارجية:
أولاً: بالأوامر والنواهي المباشرة.
ثانياً: بقانون العقاب على السلوك السيّئ
[3].

وعنصر الضبط الخارجيّ لا يمكنه أن يؤدّي وظيفته المطلوبة بدون عنصر الضبط الداخليّ.

فالتربية الإسلامية تتميّز عن غيرها من ألوان التربية الأخرى بأنّها تُريد أن ينطلق السلوك من قوة داخلية قيميّة، فهي تهدف أن تجعل سلوك الطفل يتحرّك من القوّة المعنوية الداخلية ليجسدها بسلوك عمليّ خارجيّ، فمثلاً لا تُريد للطفل أن يقف احتراماً للآخرين خوفاً أو طمعاً مع شتمه لهم في داخله، بل تُريد أن يقف احتراماً انطلاقاً من قيمة الاحترام التي يعيشها في داخله كشحنة محرّكة ذاتياً للسلوك الخارجيّ.

التربية بالنموذج تبدأ من تربية النفس
عن الإمام عليّ عليه السلام، قال: “من نصب نفسه للناس إماماً، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليمه غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومؤدّبهم”[4]. وبناءً على ذلك فإنّ على الوالدين تربية نفسيهما قبل البدء بعملية تربية الطفل، وإلاّ فإنّ فاقد الشيء لا يُعطيه.
وهذا النوع من التربية غير مختصّ بالأب والأمّ، بل يشمل كلّ معلّم ومربّ، فإذا لم يكن المربّي عاملاً بعلمه لا يمكنه أن يكون مؤثّراً على الآخرين.
يقول السيد محمد حسين الطباطبائيّ في هذا المقام: “إنّ من الواجب أن يكون المعلّم المربّي عاملاً بعلمه، فلا تأثير في العلم إذا لم يقرن بالعمل….
ولذلك نرى الناس لا تلين قلوبهم ولا تنقاد نفوسهم للعظة والنصيحة إذا وجدوا الواعظ به أو الناصح بإبلاغه غير متلبّس بالعمل متجافياً عن الصبر والثبات في طريقه، وربما قالوا: لو كان ما يقوله حقّاً لعمل به،… فمن شرائط التربية الصالحة أن يكون المعلِّم المربِّي نفسُه متّصفاً بما يصفه للمتعلِّم متلبّساً بما يُريد أن يلبسه….”[5]…

فإذا كان المربّي غير مؤمن بما يقوله أو غير عامل وفق علمه فلا يُرجى منه خير.

التربية الإسلامية للطفل، دار المعارف الإسلامية الثقافية


[1] الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص76.
[2] الخميني، الإمام روح الله، جنود العقل والجهل، تعريب أحمد الفهري، بيروت،مؤسسة الأعملي للمطبوعات، 1422ه – 2001م، لا.ط، ص142.
[3] تمّت الاستفادة في هذه الفقرة بما يتناسب مع موضوع بحثنا من كتاب: السيد الصدر، اقتصادنا، ص282 – 284.
[4] نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين ومواعظه، ص640-641، ح73.
[5] قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ سورة يونس، الآية 35. وقال: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ سورة البقرة، الآية 44. وقال حكاية عن قول شعيب لقومه: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ سورة هود، الآية 88.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى