مقالات

كيف كان المنهج التربوي للزهراء (عليها السلام)؟

عندما نطّلع على حياة السيدة فاطمة عليها السلام من خلال ما وصل إلينا من أخبار مع قلّتها، نستطيع أن نخرج بأسس عامّة لنهجها التربوي، فيما يخصّ تربية الأبناء، وذلك من خلال سلوكيّاتها مع أولادها. وفي هذا المجال تقدّم لنا السيدة فاطمة عليها السلام مرّة أخرى رائعة من روائع السلوك البشريّ، فلسائل أن يقول، ما هو السرّ في تربية السيدة فاطمة عليها السلام لأولادها بحيث خرّجت في حضنها صنّاع التاريخ: الإمام الحسن عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام وزينب عليها السلام؟! فالتربية الفاطميّة لزينب عليها السلام مثلًا، وهي التي لم تكن معصومة كأخويها عليهم السلام أهّلتها لأن تقوم بدورٍ شكّل منعطفًا للتاريخ. يقول الإمام الخامنئيّ في هذا الصدد: “لاحظوا كم تستلزم وضعيّة هذه المرأة من صلابة حتّى تفيض بها على هذا الزوج… وتربّي الأولاد بتلك التربية العالية التي ربّتهم عليها. فإذا قال قائل: إنّ الحسن والحسين إمامان ومجبولان على العصمة، فزينب لم تكن إماماً، لكنّ فاطمة الزهراء ربّتها تربية صالحة خلال تلك السنوات القصيرة.. إذ لم تلبث فاطمة طويلاً من بعد وفاة الرسول!”[1] ، إذاً ما هي الطريقة والمنهج اللذان اعتمدتهما الزهراء عليها السلام مع أولادها فأنتجا تلك الثمار؟

بعد ملاحظة سيرة السيدة فاطمة عليها السلام مع أولادها وسياق تعاملها معَهم، يمكننا وضع ثلاثة أسس عامّة تتسمُ بها التربية الفاطميّة، وهي تشكّل المنهج الذي اعتمدته في تربيتها لأبنائها، حيث كان مضمون التربية الفاطميّة قائمًا على التالي: القيم الحقّة المنبثقة من الدين وزرعها في نفوس الأولاد وجبل كيانهم عليها، وذلك من خلال تجسيدها لتلك القيم بشكلٍ عمليّ، فاعتمدت أسلوب القدوة والأسوة وتقديم النموذج، بحيث يندر أن نعثر على موقف كان للزهراء عليها السلام فيه وعظٌ مباشر لأولادها، إلّا أنّ ذلك كلّه هو تحت رداء الحبّ والحنان، ولعلّ هذا ما يميّز المنهج الخاصّ بالأمهات ولذا كان دور المرأة بكونها أمًّا لا بديل عنه. فعناصر تربيتها عليها السلام كانت: مضموناً قيميّاً، بأسلوب تقديم النموذج العمليّ، برداء الحبّ.

السيدة فاطمة عليها السلام تربّي بالحبّ
إنّ من أشدّ لحظات الأنثى فرحًا في حياتها هي عندما تصبح أمًّا، عندما ترى وليدها لأوّل مرّة، فكيف إذا كانت الأمّ فاطمة عليها السلام العارفة بحقيقة الأمومة وكيف إذا كان الوليد هو الحسن عليه السلام! ومن الجيّد لفت النظر إلى مدى أهمّيّة سيادة الفرح والسرور داخل العائلة، وأن يشعر الأطفال بأنّ أهلهم مسرورون بهم، فرحون بوجودهم، فيتربّوا بفرح ويعيشوا بفرح وطمأنينة، وهو ما نلاحظه في عائلة السيدة فاطمة عليها السلام في فحوى الروايات، بل إنّ بعض الروايات تبيّن كيف كان الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام يلعبان بين يدي أمّهما وكم كانت فرحةً بهما[2]، كذلك فقد كانت عليها السلام تلاعبهما وتناغيهما وتدلّلهما، فتقول للحسن مثلّا وهي تناغيه وترقّصه: “أشبه أباك يا حسن، واخلع عن الحقّ الرسن..”[3] وتناغي الحسين وتقول: “أنت شبيه بأبي، لست شبيهاً بعليّ..”[4].

إضافةً إلى ذلك فإنّ الحبّ والحنان اللذين يبديها لسان الروايات في تعامل الزهراء عليها السلام مع أولادها تكاد تستشعرهما لشدّتهما، ويبدو ذلك واضحًا في خطابها لهما فتناديهما بأمثال: “يا ثمرة فؤادي، قرة عيني..”[5] ، كما تروي لنا الأخبار كيف كانت تهتمّ بنفسها بأطفالها، فتمضغ لهم الطعام وتطعمهم عندما كانوا صغارًا…[6]، وتتولّى بنفسها عليها السلام تغسيلهم وترتيبهم[7].

وكذا كانت شديدة الحرص على مشاعر صغارها وعواطفهم ففي رواية أنّ الحسن والحسين كانا يكتبان ذات مرّة، فتحاكما إلى أمّهما لتحكم بمن خطّه أحسن، فكرهت أن تؤذي أحدهما فقالت: “سَلَا أَبَاكُمَا”، وكره الإمام عليّ عليه السلام أن يؤذي أحدهما فقال: سلا جدّكما… لكنّ الرسول لم يحكم بينهما ورُدّ الحكم إلى الزهراء عليها السلام، فما كان منهما إلّا أن قطعت عقدها ونثرت حبّاته وقالت: “أَنَا أَنْثُرُ بَيْنَكُمَا جَوَاهِرَ هَذِهِ الْقِلَادَةِ فَمَنْ أَخَذَ مِنْهَا أَكْثَرَ فَخَطُّهُ أَحْسَنُ”[8]، فكان كلّ واحد نصيبه كالآخر، وكلّ ذلك حصل حرصًا على مشاعرهما عليهما السلام، وهما إمامان معصومان! فحريٌّ بالمربّين من آباء وأمهات وغيرهم أن يكونوا مرهفي الحسّ تجاه الأطفال، ولا يعتبروا أنّ هذه مواقف تمرّ في حياة الطفل من دون أثر، وأنّ الحفاظ على مشاعره ومساعدته للاعتداد بنفسه ورؤية إنجازاته هو أمر بالغ الأهمّيّة في تربيته.

كذلك فإنّه ومع ضيق الحال المادّيّة بشكل عامّ، إلّا أنّ السيدة فاطمة عليها السلام، كانت تهتمّ بأن يلبس أولادها ثياب العيد أسوة بأبناء المدينة أقرانهم مثلًا، حيث تقول الرواية لما جاء العيد قال الإمامان الحسن والحسين عليهما السلام لأمّهما: “قَدْ زَيَّنُوا صَبِيَّانَ الْمَدِينَةِ إِلَّا نَحْنُ فَمَا لَكَ لَا تُزَيِّنِينَا”، فَقَالَتْ: “ثِيَابُكُمَا عِنْدَ الْخَيَّاطِ فَإِذَا أَتَانِي‏ زَيَّنْتُكُمَا”[9]، وفي هذا الموقف أبعادٌ تربويّة هامّة جدًّا، حيث ينبغي أن يأخذ الآباء والمربّون بعين الاعتبار المحيط الذي يضعون الأولاد فيه، فبعد أن نؤمّن بيئة مناسبة لهؤلاء الأطفال، علينا أن نحافظ على شأنيتهم ومشاعرهم بما يتناسب مع البيئة، لما لذلك من تأثير في نفسيّة الطفل وشخصيّته، وإلّا فلنسعَ لتغيير البيئة التي لا تناسبنا حرصًا منّا على نفوس أطفالنا. وعليه، فإنّ كلّ تلك المواقف التي تحدّثنا عنها وغيرها تبيّن كيف كان للحبّ الفاطميّ السيادة في التربية، وكيف كان وعاء الحبّ هو الوعاء الحاوي لكلّ السلوكيّات التربويّة، فقد كانت بحقّ تربّي بالحبّ.

السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام قدوة وأسوة، دار المعارف الإسلامية الثقافية


[1] خطاب الإمام الخامنئيّ دام ظله بمناسبة أسبوع الشباب في الجمهورية الإسلاميّة، في طهران، بحضور جمع من الشباب من مختلف الشرائح الاجتماعية، بتاريخ 11/01/1419ه.ق.
[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏36، ص 361.
[3] البحراني الأصفهاني، عوالم العلوم، مصدر سابق، ج‏11، ص 898.
[4] المصدر نفسه.
[5] المصدر نفسه، ص 932.
[6] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج‏4، ص 115.
[7] الشيخ الطبرسيّ، إعلام الورى بأعلام الهدى، مصدر سابق، ص 212.
[8] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏43، ص 310.
[9] ابن شهرآشوب المازندراني، المناقب، مصدر سابق، ج‏3، ص 391.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى