مقالات

الفساد الاقتصادي وهجرة الحضارات

الاقتصاد من جملة الأسس والأركان المهمّة والأساسيّة في المجتمع، وهو من الأعمدة الأساسيّة للحضارة.

إذا سقط هذا الركن المهمّ، تسقط كافّة أركان المجتمع الأخرى الواحد بعد الآخر. يؤكّد القرآن الكريم لنبيه شعيب وفي سبيل الحفاظ على هذا الركن سالماً، أن يبذل جهده لإصلاح اقتصاد مجتمع مدين حتى لا يسقط المجتمع.

﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾ ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾[1]

أمر الله تعالى شعيباً الانتقال إلى أهل مدين وتحذيرهم من الفساد في الأرض وليؤكد لهم أن فسادهم في الأرض وانحرافهم الاقتصادي وغير الاقتصادي، بعدما عمل الصالحون والرسل وأنبياء الله العظام على إصلاحها وتطهيرها، هو بمثابة السقوط في وادي الموت الكبير.

﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[2]

جاء في تفسير المنار حول معنى الإصلاح والإفساد: “إنّ الإفساد في الأرض، يشمل إفساد نظام الاجتماع البشريّ بالظلم وأكل الأموال بالباطل، والبغي والعدوان على الأنفس والأعراض وإفساد العمران بالجهل وعدم النظام. وإصلاحها، هو ما يصلح به أمرها، وحال أهلها من العقائد الصحيحة المنافية لخرافات الشرك ومهانته، والأعمال الصالحة المزكّية للأنفس من أدران الزوائل، والأعمال الفنية المرقية للعمران وحسن المعيشة فقد قال تعالى في أوائل هذه السورة (الأعراف): “﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ فقد أصلح الله تعالى حال البشر بنظام الفطرة وكمال الخلقة ومكّنهم إصلاح الأرض بما آتاهم من القوى العقلية والجوار وبما أودع في خلق الأرض من السنن الحكمية وبما يبعث به الرسل من مكملات الفطرة، فالإفساد إزالة صلاح أو إصلاح وقد كان قوم شعيب من المفسدين للدين والدنيا، كما يُعلم من هذه الآية وما بعدها، والإصلاح وما يكون بفعل فاعل وهو أمّا الخالق الحكيم وحده، وأمّا سخرهم للإصلاح من الأنبياء عليهم السلام، والعلماء والحكماء الذين يأمرون بالقسط، والحكّام العادلين الّذين يقيمون القسط، وغيرهم من العاملين الذين ينفعون الناس في دينهم ودنياهم، كالزرّاع والصنّاع والتجّار وأهل الأمانة والاستقامة، وهذه الأعمال تتوقّف في هذا العصر على علوم وفنون كثيرة، فهي واجبة، وفقاً لقاعدة ما لا يتم الواجب إلّا به، فهو واجب..”[3]

لقد أغلق قوم شعيب الطريق على الإصلاح وفتحوا طريق الفساد. وبما أنّ مدينتهم كانت على ملتقى القوافل، لذلك كانوا يستفيدون من هذا الأمر بشكل سيِّئ ويضيّقون على القوافل والتجّار ويشترون بضاعتهم بثمن بخس، ويبيعون بضاعتهم بثمن عالٍ، أي أنهم كانوا يفسدون في المعاملات وبتبادل البضاعة.

وكانوا يمنعون الناس من الالتحاق بالحق والاجتماع على شعيب.

﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾[4]. روي عن ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾ أنه قال: “كانوا يجلسون في الطريق فيقولون لمن أتى عليهم، إنّ شعيباً كذّاب فلا يفتننَّكم عن دينكم”[5].

“يُلاحظ أنّ ابن عبّاس اعتبر أنّ الصراط هو الطريق الحقيقي بينما اعتبره مجاهد أنه الطريق المجازي وقال: المقصود كلّ طريق حقّ”.

وبما أنّ أهل مدين والأيكة لم يصغوا للحكم والنصائح ولتحذيرات الأنبياء المصلحين والذين يستشرفون المستقبل، انحرفوا عن الطريق، فابتلوا بالعذاب الأليم وكان الدمار من نصيبهم: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾[6].

وجاء في آية: ﴿وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ ﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾[7].

قوم شعيب هم نموذج أخبر الله تعالى عن عملهم ومصيرهم. والسنّة تقتضي عذاب كلّ قوم وجماعة تعمد إلى الفساد وعدم الإصغاء إلى النصائح والتحذيرات، وهي سنّة جارية في كلّ مكان وفي كلّ أرض.

إنّ الحضارات ومهما كانت كبيرة شامخة وتمتلك عدداً كبيراً من الجنود والقادة أصحاب التدبير، تتجه نحو الزوال عندما يدبّ الفساد إلى الأركان الاقتصادية.

كتب الأستاذ محمّد تقي جعفري: “يمكن للفساد، أو الاختلالات الاقتصادية أن تكون سبباً لزوال كلّ حضارة، حتى لو كانت الحضارة تتحرّك في أعلى مستوياتها… البديهيّ أنّ المسائل الاقتصادية تشكّل قوام الحياة البشرية وساحة حركتها، لأنّ الإنسان لا يمكنه الاستمرار بالحياة من دون استهلاك موادّ الطبيعة، سواء كانت الحياة في شكلها الابتدائي أو في أعلى أشكالها”[8].

روضة المبلغين (4) – 2015م، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


[1] سورة هود،  84 – 85.
[2] سورة الأعراف، 85.
[3] تفسير المنار،ج8، 526.
[4] سورة الأعراف، 86.
[5] تفسير المنار،ج8، 531.
[6] سورة الأعراف، 91.
[7] سورة هود، 94-95.
[8] ترجمة وتفسير نهج البلاغة، ج5، 218.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى