مقالات

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام

كانت المدينة المنوّرة مصدراً للفتيا ترجع إليها الأمّة في مهمّات التشريع الإسلاميّ لأنّها مركز العلم وفيها أصحاب الرسول وأهل بيته والتَّابعون لهم بإحسان، وقد لاحظت الدولة الأمويّة من قبل هذه المهمّة التي يجب أن تلاحظها، وهي اتجاه الأنظار إلى المدينة لأنّها الجامعة الإسلاميّة ويخشى على الدولة خطرها، فكانت تحذّرهم أشدّ الحذر، فاستمالت الفقهاء بالعطاء والرجوع إليهم في المهمّات، لتسدّ بذلك ثغرة الخطر على الدولة.

وفي العهد العبّاسيّ نشطت الحركة العلميّة وكان طبيعيّاً أن تنتعش العلوم في ظلّ سلطانهم لأنّهم كانوا يجعلون حقّهم في الإمامة قائماً على أنّهم سلالة النبيّ, وكانوا يقولون: إنّهم سيشيدون على سنّة النبيّ وأحكام الدّين الإلهيّ- حسب زعمهم وادّعائهم-.

فنهض أهل البيت عليهم السلام وبقيّة العلماء لنشر العلم إذ وجد المسلمون حريّة الرأي, والتقوا حول آل البيت عليهم السلام لانتهال العلوم من موردهم العذب, وكان الإمام الصادق عليه السلام هو الشخصيّة التي يتطلّع إليها الناس يوم طلع فجر النهضة العلميّة فحملوا عنه إلى سائر الأقطار, وقصده طلّاب العلم من الأنحاء القاصية, وفتحت مدرسته في تلك الفترة..1.

وهنا نسجّل للإمام عليه السلام أهمّ ما قام به من أدوار على الصعيد العلميّ والفكريّ:

أوّلاً: ازدهار جامعة أهل البيت عليهم السلام:
فبعد تأسيس هذه الجامعة على يد الإمام زين العابدين عليه السلام, ونهوض الإمام الباقر عليه السلام بها, أكمل الإمام الصادق عليه السلام مسيرة أبيه وجدّه عليهما السلام لتبلغ هذه الجامعة ذروة المجد وتزدهر أشدّ الازدهار فتكون الجامعة الأولى في تاريخ الإسلام التي تحتضن بين جنبتيها تلامذة وطلّاباً من جميع أقطار المعمورة, ومن مختلف المذاهب والفرق والاتجاهات, وليشكّل الإمام الصادق عليه السلام محور هذه الجامعة بشخصيّته العلميّة الفذّة التي استقت علومها من منبع الوحي والنبوّة, كما روي عن صادق العترة عليه السلام أنه قال: حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام, وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وحديث رسول الله قول الله عزَّ وجلَّ2.

مرسّخاً بذلك مرجعيّة أهل البيت عليهم السلام العلميّة والفكريّة, ومشكّلاً بذلك الشخصيّة الفريدة التي تصلح أن تكون عنواناً لوحدة المسلمين في الوقت الذي شتّتتهم المذاهب والأهواء والسياسات.. قال الشيخ المفيد رحمه الله: وكان الصادق جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام من بين إخوته خليفة أبيه محمّد بن عليّ عليهما السلام ووصيّه والقائم بالإمامة من بعده، وبرز على جماعتهم بالفضل، وكان أنبههم ذكراً، وأعظمهم قدراً، وأجلّهم في العامّة والخاصّة، ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته العلماءُ ما نقل عنه، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله عليه السلام، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات، على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل3.

وعن الحسن بن عليّ الوشّاء أنّه قال: أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر بن محمّد4.
ويقول الشيخ كمال الدّين بن طلحة الشافعيّ عند ذكره للإمام الصادق عليه السلام: نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من أعيان الأئمّة وأعلامهم مثل يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وابن جريح، ومالك بن أنس، والثوريّ، وابن عيينة، وأبي حنيفة، وشعبة، وأيّوب السجستانيّ، وغيرهم، وعدّوا أخذهم منه منقبة شرّفوا بها، وفضيلة اكتسبوها, إلى أن قال: وأمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوق عدد الحاصر، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر، حتّى أنّ من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى صارت الأحكام التي لا تدرك عللها، والعلوم التي تقصر الأفهام عن الإحاطة بحكمها تضاف إليه وتروى عنه..5

وفي ذلك يقول الجاحظ: جعفر بن محمّد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه، ويقال: إنّ أبا حنيفة من تلامذته وكذلك سفيان الثوريّ، وحسبك بهما في هذا الباب6.

مع أبي حنيفة:
وعن أبي حنيفة قال: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد7. وله كلمته المشهورة: لولا السنتان لهلك النعمان, يقول الآلوسي: هذا أبو حنيفة وهو من أهل السنّة يفتخر ويقول بأفصح لسان: لولا السنتان لهلك النعمان، يعني السنتين اللتين جلس فيهما لأخذ العلم عن الإمام جعفر الصادق8.

وأُثر عنه قوله: لولا جعفر بن محمّد ما علم الناس مناسك حجّهم, وقوله أيضاً أنّه ما رأى أعلم من جعفر بن محمّد وأنّه أعلم الأمّة9.
وعن أبي نجيح قال: سمعت حسن بن زياد يقول: سمعت أبا حنيفة وسئل: من أفقه من رأيت؟ فقال: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمّد، لمّا أقدمه المنصور الحيرة، بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة، إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد فهيّئ له من مسائلك الصعاب، قال: فهيّأت له أربعين مسألة، ثمّ بعث إليّ أبو جعفر فأتيته بالحيرة، فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلمّا بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر، فسلّمت، وأذن لي، فجلست، ثمّ التفت إلى جعفر، فقال: يا أبا عبد الله تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا أبو حنيفة، ثمّ أتبعها: قد أتانا، ثمّ قال: يا أبا حنيفة؟ هات من مسائلك، نسأل أبا عبد الله، وابتدأت أسأله، وكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا، فربما تابعنا وربما تابع أهل المدينة، وربما خالفنا جميعاً حتّى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم منها مسألة، ثمّ قال أبو حنيفة: أليس قد روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس10 .

مع مالك بن أنس:
وعن مالك بن أنس: جعفر بن محمّد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلّا على إحدى ثلاث خصال: إمّا مصلٍّ وإمّا صائم وإمّا يقرأ القرآن، وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمّد الصادق علماً وعبادةً وورعاً!11 .

وقال في وصفه عليه السلام: وكان من عظماء العبّاد وأكابر الزهّاد الذين يخشون الله عزَّ وجلَّ, وكان كثير الحديث, طيّب المجالسة, كثير الفوائد, فإذا قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم”, اخضرّ مرّة واصفرّ أخرى, حتّى ينكره من يعرفه. ولقد حججت معه سنة فلمّا استوت به راحلته عند الإحرام, كان كلّما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه وكاد أن يخرّ من راحلته, فقلت: قل يا بن رسول الله ولا بدّ لك من أن تقول, فقال: “يا بن أبي عامر, كيف أجسر أن أقول لبّيك اللهمّ لبّيك؟ وأخشى أن يقول تعالى لي: لا لبّيك ولا سعديك”12 .

مع سفيان الثوريّ:
عن ابن أبي حازم أنّه قال: كنت عند جعفر بن محمّد عليهما السلام إذ جاء آذنه فقال: سفيان الثوريّ بالباب. فقال: ائذن له، فدخل فقال له جعفر عليه السلام: “يا سفيان, إنّك رجل يطلبك السلطان وأنا أتّقي السلطان، قم فاخرج غير مطرود”. فقال سفيان: حدّثني حتّى أسمع وأقوم. فقال جعفر عليه السلام: “حدّثني أبي عن جدّي إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلم قال: من أنعم الله عليه نعمة فليحمد الله, ومن استبطأ الرزق فليستغفر الله، ومن حزنه أمر فليقل لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم”. فلمّا قام سفيان قال جعفر عليه السلام: “خذها يا سفيان ثلاث وأيّ ثلاث!” 13.

ثانياً: بناء المذهب الجعفريّ- بالمعنى الخاصّ – في قُبالة المذاهب الأخرى:
ونتيجة للنشاط العلميّ والفكريّ السابق الذي تميّز به الإمام الصادق عليه السلام, فقد صار يعرف المذهب الجعفريّ بآرائه الخاصّة سواء على مستوى العقيدة أو تفسير القرآن أو الفقه أو غيرها من المعارف والجوانب الدينيّة الأخرى, حتّى بات يعرف فقه الشيعة بالفقه الجعفريّ, فترى هذا الأمر في زمانه قد أصبح واضحاً في جملة من المسائل: كقضيّة المسح على الرجلين, ومتعة النساء والحجّ, وكذلك الأمر في جملة من المسائل العقائديّة كالقول بالإمامة, والأمر بين الأمرين, والقول بالرجعة وغيرها من الأمور..

أهل الحديث وأهل الرأي:
ونلاحظ أن الإمام عليه السلام لا يكتفي بإعلان مذهب أهل البيت عليهم السلام بل نجده يتّخذ موقفاً أيضاً من العديد من النظريّات التي تبنّاها بعض من عاصر الإمام عليه السلام, ممّن عُرفوا بأصحاب الرأي والقياس وكان يطلق عليهم مصطلح الاجتهاد آنذاك.

فقد ذكر الشيخ أسد حيدر رحمه الله أنّ الحديث في العراق كان قليلاً ولكن انفتح فيه باب الرأي والقياس, وقد أخذه حمّاد بن إبراهيم النخعيّ (المتوفي سنة 95 هـ 713 م) وأخذه أبو حنيفة عن حمّاد, وكان أهل الحديث يعيبون أهل الرأي بأنّهم يتركون الأحاديث لأقيستهم, والدّين لا يقاس بالرأي, وإنّما سُمّوا أهل الرأي لأنّ عنايتهم بتحصيل وجه من القياس والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها, وربما يقدّمون القياس الجليّ على آحاد الأخبار, وطريقتهم أنّ للشريعة مصالح مقصودة من أجلها شرّعت, فجعلوا هذه المصالح أصلاً من أصول الأدلّة إذ لم يجدوا نصّاً في الكتاب والسنّة الصحيحة عندهم, وقد كانت قليلة العدد لبعد العراق عن موطن الحديث.

وأمّا أهل الحديث فلم يجعلوا للقياس والرأي في استنباط الأحكام هذا المحلّ, واتّسقت شقّة الخلاف واحتدم النزاع وافترق أهل الفتيا إلى فرقتين.
ثمّ أصبح هذا النزاع مزيجاً بالسياسة والتعصّب وتعدّدت فيه عوامل التفرقة ومن بينها تدخّل السلطات الحاكمة التي كانت تدعم فريقاً على حساب فريق ومذهب على مذهب آخر وتروّج لهذا على حساب ذاك14 .

موقف الإمام الصادق عليه السلام من القياس
وكان الإمام الصادق عليه السلام من المنكرين على القياس والناهين عن العمل به.
يحدّثنا أبو نعيم أنّ أبا حنيفة وعبد الله بن شبرمة وابن أبي ليلى، دخلوا على جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام فجرى بين الإمام عليه السلام وبين أبي حنيفة حديث… وممّا قاله الإمام عليه السلام له: “يا نعمان حدّثني أبي عن جدّي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أوّل من قاس أمر الدّين برأيه إبليس، قال الله تعالى له: ﴿اسْجُدُواْ لآدَمَ، فقال: أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين﴾ فمن قاس الدّين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنّه اتّبعه بالقياس”! قال ابن شبرمة: ثمّ قال جعفر: “أيّهما أعظم قتل النفس أو الزِّنى؟” قال أبو حنيفة: قتل النفس. قال الصادق عليه السلام: “فإنّ الله عزَّ وجلَّ قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزِّنى إلّا أربعة”. ثمّ قال: ” أيّهما أعظم الصلاة أم الصوم؟” قال أبو حنيفة: الصلاة. قال الصادق عليه السلام: “فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟!…”

وعن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: “عشرة من الإبل”. قلت: قطع اثنين؟ قال: ” عشرون”. قلت: قطع ثلاثاً؟ قال: “ثلاثون”. قلت: قطع أربعاً؟ قال: “عشرون”. قلت: سبحان الله يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً ويكون عليه عشرون؟! إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قال ونقول: الذي جاء به شيطان. فقال: “مهلاً يا أبان، هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الديّة، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس، وإنّ السنّة إذا قيست محقَ الدّين”. إلى غير ذلك من القضايا الكثيرة التي تدلّ على رفض القياس لدى أئمّة الشيعة. وهكذا استمرّت معارضة القياس حتّى أصبح إنكاره من ضروريّات مذهب أهل البيت عليهم السلام ولهم أدلّتهم على ذلك ليس هنا محلّ ذكرها.

وعلى أيّ حال لو قطعنا النظر عن القياس والاستحسان وأمثالهما فقد كانت عمليّة استنباط الأحكام الشرعيّة من الكتاب والسنّة..أمراً رائجاً بين الشيعة، خاصّة الذين تربّوا في مدرسة الإمامين الصادقين عليهما السلام أمثال زرارة بن أعين, ومحمّد بن مسلم، وأبان بن تغلب، وغيرهم من خرّيجي هذه المدرسة. حتّى أنّ الأئمّةعليهم السلام كانوا يأمرون بعض أصحابهم باستنباط الأحكام وإفتاء الناس، كما أمر الإمام الباقر عليه السلام أبان بن تغلب أن يجلس في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويفتي الناس حيث قال له: “اجلس في مسجد المدينة وافت الناس, فإنّي أحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك”. أو كما قال الإمام الصادق عليه السلام لسائل سأله عن المسح على مرارة وضعها على ظفره المقطوع: “يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزَّ وجلَّ، قال الله تعالى:رحمه اللهمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍقدس سره, امسح عليه”.

وهكذا نرى كيف يعلّم الإمام عليه السلام هذا السائل كيفيّة استنباط الحكم الشرعيّ من الكتاب. والموارد من هذا القبيل كثيرة حيث كان علماء الشيعة يستندون في استنباط الأحكام الشرعيّة على كتاب الله وسنّة نبيّه التي تصل إليهم بواسطة الأئمّة عليهم السلام.. .15

ثالثاً: مواجهة التيّارات والمذاهب المنحرفة:
فقد امتاز عصر الإمام الصادق عليه السلام بأنّه عصر التيّارات الفكريّة والثقافيّة أكثر من كونه عصر الثورات السياسيّة, حيث استلم الإمامة بعد وفاة أبيه الباقرعليه السلام وعاش حتّى سنة 148 هـ, أي بعد أكثر من قرن على ظهور الإسلام, وهي فترة طويلة حصلت فيها الكثير من العوامل التي كانت وراء دخول ثقافات وأفكار أخرى, منها: الفتوحات الإسلاميّة التي حصلت قبل عقود من زمانه, ودخل بسببها إلى المجتمع الإسلاميّ أجيال من المسلمين الجدد من شعوب مختلفة, ومنها: بداية ترجمة الكتب في عصر بني أميّة..
فانتشرت في العالم الإسلاميّ ثقافات أخرى, كان واضحاً منها ظهور الزنادقة الذين أعطاهم بنو العبّاس الحريّة ضمن خطّة معيّنة وكذلك ظهور التصوّف بشكل مختلف16..

وكنموذج على ظهور الزنادقة, نجد في الأخبار ما يتحدّث عن بعض المناظرات التي كانت تحصل بين الإمام وبين بعض هؤلاء الزنادقة, فقد روي عن أحمد بن محسن الميثميّ قال: كنت عند أبي منصور المتطبّب فقال: أخبرني رجل من أصحابي قال: كنت أنا وابن أبي العوجاء وعبد الله بن المقفّع في المسجد الحرام فقال له ابن المقفّع17: ترون هذا الخلق- وأومأ بيده إلى موضع الطواف- ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانيّة إلّا ذلك الشيخ الجالس- يعني أبا عبد الله جعفر بن محمّد عليهما السلام- فأمّا الباقون فرعاع وبهائم! فقال له ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟ قال: لأنّي رأيت عنده ما لم أره عندهم, فقال له ابن أبي العوجاء: لا بدّ من اختبار ما قلت فيه منه، قال: فقال ابن المقفّع: لا تفعل, فإنّي أخاف أن يفسد عليك ما في يدك، فقال: ليس ذا رأيك ولكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إيّاه المحلّ الذي وصفت، فقال ابن المقفّع: أمّا إذا توهّمت عليّ هذا فقم إليه وتحفّظ ما استطعت من الزلل ولا تثني عنانك إلى استرسال فيسلمك إلى عقال18, وسِمْه ما لك أو عليك؟ قال: فقام ابن أبي العوجاء وبقيت أنا وابن المقفّع جالسين فلمّا رجع إلينا ابن أبي العوجاء قال: ويلك يا ابن المقفّع ما هذا ببشر وإن كان في الدنيا روحانيّ يتجسّد إذا شاء ظاهراً ويتروّح إذا شاء باطناً فهو هذا, فقال له: وكيف ذلك؟ قال: جلست إليه فلمّا لم يبق عنده غيري ابتدأني فقال: “إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء- وهو على ما يقولون- ( يعني أهل الطواف) فقد سلموا وعطبتم, وإن يكن الأمر على ما تقولون- وليس كما تقولون- فقد استويتم وهُم”، فقلت له: يرحمك الله وأيّ شيء نقول وأيّ شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلّا واحداً، فقال: “وكيف يكون قولك وقولهم واحداً؟ وهم يقولون: إنّ لهم معاداً وثواباً وعقاباً, ويدينون بأنّ في السماء إلهاً وأنّها عمران, وأنتم تزعمون أنّ السماء خراب ليس فيها أحد”، قال: فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته حتّى لا يختلف منهم اثنان, ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟ فقال لي: “ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك: نشوؤك ولم تكن, وكبرك بعد صغرك, وقوّتك بعد ضعفك, وضعفك بعد قوّتك, وسقمك بعد صحّتك, وصحّتك بعد سقمك, ورضاك بعد غضبك, وغضبك بعد رضاك, وحزنك بعد فرحك, وفرحك بعد حزنك, وحبّك بعد بغضك, وبغضك بعد حبّك, وعزمك بعد أناتك, وأناتك بعد عزمك, وشهوتك بعد كراهتك, وكراهتك بعد شهوتك, ورغبتك بعد رهبتك, ورهبتك بعد رغبتك, ورجاؤك بعد يأسك, ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك, وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنك”, وما زال يعدّد عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها حتّى ظننت أنّه سيظهر فيما بيني وبينه19 .

رابعاً: تربية النخبة من أصحابه:
ويأتي هذا الأمر في سياق مشروع أهل البيت عليهم السلام في مختلف الأزمنة, حيث نجد لكلّ إمامٍ منهم أصحاب وخواص وحواريّين, قام الأئمّة بتربيتهم, ولهذا نرى الإمام الباقر عليه السلام وهو يوصي ولده الإمام الصادق عليه السلام لمّا حضرته الوفاة, وفي آخر لحظات حياته الشريفة, يقول له: “يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً, قلت: جعلت فداك والله لأدعنّهم والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً”20.

وقد قام الإمام عليه السلام بهذه المهمّة على أكمل وجه حسبما تيسّرت له الظروف التي أحاطت بعصره, ولهذا فإنّ ما عدَّه علماء الرجال من أصحابه عليه السلام, لم يعدّوه بحقّ بقيّة الأئمّة عليهم السلام.
وقد ذكرنا في كتابنا “باقر العلوم” بعض أصحاب أبيه الإمام الباقر عليه السلام والذين كانوا من أصحابه أيضاً, ونشير هنا إلى نماذج أخرى مضافاً إلى ما مرَّ هناك:

1- حمران بن أعين الشيبانيّ:
أبو الحسن, الكوفيّ, كان من أصحاب الباقر والصادق عليهما السلام, وهو أخو زرارة, وقد ورد في فضله روايات عديدة:
منها: عن حجر بن زايدة, عن حمران بن أعين، قال: قلت: لأبي جعفر عليه السلام إنّي أعطيت الله عهداً، لا أخرج من المدينة حتّى تخبرني عمّا أسألك، قال: فقال لي: ” سل”, قال: قلت: أمن شيعتكم أنا؟ قال: “نعم في الدنيا والآخرة”.

وعن زياد القنديّ، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال في حمران: “إنّه رجل من أهل الجنّة”.
وعن أبي عبد الله عليه السلام أنّه كان يقول: “حمران بن أعين مؤمن لا يرتدّ والله أبداً”.
عن صفوان, قال: كان يجلس حمران مع أصحابه فلا يزال معهم في الرواية عن آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, فإن خلطوا في ذلك بغيره ردّهم إليه، فإن صنعوا ذلك عِدل ثلاث مرّات قام عنهم وتركهم 21.
وعن هشام بن الحكم، قال: سمعته يقول: “حمران مؤمن لا يرتدّ أبداً”، ثمّ قال: “نِعم الشفيع أنا وآبائي لحمران بن أعين يوم القيامة، نأخذ بيده ولا نزايله حتّى ندخل الجنّة جميعاً”22 .

2- عبد الله بن أبي يعفور العبديّ:
يكنّى أبا محمّد، قال في حقّه الشيخ النجاشيّ: ثقة ثقة، جليل في أصحابنا، كريم على أبي عبد الله عليه السلام، ومات في أيّامه، وكان قارئاً يقرأ في مسجد الكوفة23 .

وفي بعض الروايات أنّه من حواريّي أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق عليهما السلام24 .
وعدَّه الشيخ المفيد في رسالته العدديّة من الفقهاء الأعلام، والرؤساء المأخوذ منهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام، الذين لا يطعن عليهم، ولا طريق لذمّ واحد منهم25 .

وعن زيد الشحّام، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: “ما وجدت أحداً أخذ بقولي وأطاع أمري وحذا حذو أصحاب آبائي غير رجلين رحمهما الله: عبد الله بن أبي يعفور وحمران بن أعين، أما إنّهما مؤمنان خالصان من شيعتنا، أسماؤهم عندنا في كتاب أصحاب اليمين الذي أعطى الله محمّداً” 26.
وعن عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: والله لو فلقت رمّانة بنصفين، فقلت: هذا حرام وهذا حلال، لشهدت أنّ الذي قلت: حلال حلال، وأنّ الذي قلت: حرام حرام، فقال: “رحمك الله, رحمك الله” 27.

3- الفضيل بن يسار:
النهديّ أبو القاسم عربيّ، بَصْريّ، صميم، ثقة، روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، ومات في أيّامه 28.
عن إبراهيم بن عبد الله، قال: كان أبو عبد الله عليه السلام إذا رأى الفضيل بن يسار قال: “بشّر المخبتين, من أحبّ أن ينظر رجلاً من أهل الجنّة فلينظر إلى هذا”.
وكان أبو جعفر عليه السلام إذا دخل عليه الفضيل بن يسار يقول: “بخٍ بخٍ بشّر المخبتين، مرحباً بمن تأنس به الأرض”.
عن فضيل بن عثمان، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: “إنّ الأرض لتسكن إلى الفضيل بن يسار”.
كان أبو عبد الله عليه السلام إذا نظر إلى الفضيل بن يسار مقبلاً قال: “بشّر المخبتين”. وكان يقول: “إنّ فضيلاً من أصحاب أبي، وإنّي لأحبّ الرجل أن يحبّ أصحاب أبيه”.
وعن أبي عبد الله عليه السلام: “رحم الله الفضيل بن يسار، وهو منّا أهل البيت”29 .

4- محمّد بن عليّ بن النعمان الأحول:
أبو جعفر الصيرفيّ الكوفيّ, يلقّب بمؤمن الطاق, لأنّ دكّانه كان في طاق المحامل بالكوفة يرجع إليه في النقد, ومخالفوه يسمّونه شيطان الطاق, ويقال: إنّ سبب ذلك أنّهم شكّوا في درهم فعرضوه عليه، فقال لهم: ستوق30 ، فقالوا: ما هو إلّا شيطان الطاق.

وقد روى عن الإمام السجّاد والباقر والصادق عليهم السلام, وكان ثقة متكلّماً حاذقاً حاضر الجواب, وكانت له منزلة عظيمة في العلم, ونسبت إليه أشياء لم تثبت.
وله مع خصومه مناظرات كثيرة كان يظهر بها عليهم.
عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: “زرارة، وبريد بن معاوية، ومحمّد بن مسلم، والأحول، أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً”.

وعن أبي خالد الكابليّ، قال: رأيت أبا جعفر صاحب الطاق وهو قاعد في الروضة، قد قطع أهل المدينة أزراره، وهو دائب يجيبهم ويسألونه، فدنوت منه، فقلت: إنّ أبا عبد الله ينهانا عن الكلام، فقال: أمرك أن تقول لي؟ فقلت: لا والله، ولكن أمرني أن لا أكلّم أحداً، قال: فاذهب وأطعه فيما أمرك، فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام فأخبرته بقصّة صاحب الطاق، وما قلت له، وقوله لي: اذهب فأطعه فيما أمرك، فتبسّم أبو عبد الله عليه السلام، وقال: “يا أبا خالد إنّ صاحب الطاق يكلّم الناس فيطير وينقضّ، وأنت إن قصّوك لن تطير”31 – كناية عن غلبة القوم له -.

5- هشام بن الحكم:
أبو محمّد الشيبانيّ, كوفيّ، لقي الصادق والكاظم عليهما السلام، وكان ممّن فتق الكلام في الإمامة، وهذَّب المذهب بالنظر، ورفعه الصادق عليه السلام في الشيوخ وهو غلام. وقال: “هذا ناصرنا بقلبه ولسانه ويده”, وقوله عليه السلام: “هشام بن الحكم رائد حقّنا، وسائق قولنا، المؤيّد لصدقنا، والدافع لباطل أعدائنا، من تبعه وتبع أثره تبعنا، ومن خالفه وألحد فيه فقد عادانا وألحد فينا”.

وعدَّه الشيخ المفيد قدس سره، من الأعلام الرؤساء، المأخوذ عنهم الحلال والحرام، والفتيا والأحكام، الذين لا مطعن عليهم، ولا طريق إلى ذمّ واحد منهم.
وعن هشام بن الحكم، قال: سألت أبا عبد اللهعليه السلام بمنى عن خمسمائة حرف من الكلام، فأقبلت أقول: يقولون كذا وكذا، قال: فيقول لي: “قل كذا”. فقلت: هذا الحلال والحرام, والقرآن أعلم أَنِّك صاحبه وأعلم الناس به, فهذا الكلام من أين؟ فقال: “يحتجّ الله على خلقه بحجّة لا يكون عنده كلّما يحتاجون إليه؟!”.

عن يونس، أنّ هشام بن الحكم، كان يقول: أللهمّ ما عملت وأعمل من خير مفترض وغير مفترض فجميعه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الصادقين عليهم السلام حسب منازلهم عندك، فاقبل ذلك كلّه منّي وعنهم، وأعطني من جزيل جزاك به حسب ما أنت أهله32 .

مميّزات المدرسة الجعفريّة
تميّزت مدرسة الإمام الصادق عليه السلام بمميّزات عديدة نشير لبعضها:
1- أنّها لم تنغلق على خصوص العناصر الموالية لأهل البيت عليهم السلام, فقد رأينا أنّها ضمّت العديد من الأشخاص من أصحاب المذاهب الأخرى وأتباعه, كما تقدّم عن أبي حنيفة وغيره.
2- لم تتّخذ طابع الانتماء لسياسة الحاكمين من الدولة الأمويّة أو العبّاسيّة, فلم تكن أداة لهم.

3- تميّزت هذه المدرسة بالمنهج السليم الذي يعتمد العمق الفكريّ في أطروحته العلميّة والارتباط المباشر بالكتاب والسنّة الشريفة.
4- أنتجت هذه المدرسة العديد من الرموز الفكريّة الذين تخرّجوا منها, وكانوا يفخرون بالانتساب إليها, وقد بلغ عددهم- كما تقدّم- أربعة آلاف طالب, وقد كان العديد من هؤلاء امتداداً واعياً ومؤثّراً في المسيرة العامّة للأمّة- فضلاً عن السياسيّة- ممّا يدلّ على أنّ الإمام كان يهدف إلى حركة تغييريّة, كانت حركته العلميّة هذه جزءاً من هذا البرنامج التغييريّ والإصلاحيّ الكبير.

5- اهتمّت مدرسة الإمام الصادق عليه السلام بتدوين الحديث والحفاظ على مضمونه, كما اهتمّت أيضاً بتدوين العلم بشكل عامّ ومدارسته بهدف إثرائه وإنمائه, وقد كان الإمام عليه السلاميأمر طلّابه بذلك ويحثّهم عليه, فشكّلت الأساس لتأليف ما يعرف بالأصول الأربعمائة, التي أخذ عنها أصحاب الكتب الأربعة عند الشيعة, وهي: كتاب الكافي للشيخ الكلينيّ, وكتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق, وكتابي تهذيب الأحكام والاستبصار لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسيّ.

6- أنّها انفتحت على مختلف فروع المعرفة الإسلاميّة, في القرآن وتفسيره وعلومه, والسنّة, والعقيدة, والفقه وأصوله, والتاريخ, وغيرها, بل اهتمّت أيضاً بالعديد من العلوم الأخرى, كعلم الفلك, والطبّ, والكيمياء فكانت ملهمة في العديد من العلوم, وأنمت الفكر الإسلاميّ وطوّرته من خلال التخصّص العلميّ.

ونستطيع هنا إبراز نموذجين على ما ذكرناه من هذا التخصّص العلميّ:
النموذج الأوّل: ما روي عن هشام بن سالم قال: كنّا عند أبي عبد الله عليه السلام جماعة من أصحابه، فورد رجل من أهل الشام فاستأذن فأذن له، فلمّا دخل سلّم فأمره أبو عبد الله عليه السلام بالجلوس. ثمّ قال له: “ما حاجتك أيّها الرجل”؟ قال: بلغني أنّك عالم بكلّ ما تُسأل عنه, فصرت إليك لأناظرك, فقال أبو عبد الله عليه السلام: “في ماذا؟” قال: في القرآن وقطعه وإسكانه وخفضه ونصبه ورفعه, فقال أبو عبد الله عليه السلام: “يا حمران دونك الرجل”. فقال الرجل: إنّما أريدك أنت لا حمران, فقال أبو عبد الله عليه السلام: “إن غلبت حمران فقد غلبتني”, فأقبل الشاميّ يسأل حمران حتّى ضجر وملَّ وعرض33 , وحمران يجيبه، فقال أبو عبد الله عليه السلام: “كيف رأيت يا شامي؟!” قال: رأيته حاذقاً ما سألته عن شيء إلّا أجابني فيه، فقال أبو عبد الله عليه السلام: “يا حمران سل الشاميّ”، فما تركه يكشر34 فقال الشاميّ: أرأيت يا أبا عبد الله أناظرك في العربيّة؟ فالتفت أبو عبد الله عليه السلام فقال: “يا أبان بن تغلب ناظره”, فناظره فما ترك الشاميّ يكشر، قال: أريد أن أناظرك في الفقه, فقال أبو عبد الله عليه السلام: “يا زرارة ناظره”, فما ترك الشاميّ يكشر, قال: أريد أن أناظرك في الكلام، فقال: “يا مؤمن الطاق ناظره”, فناظره فسجل الكلام بينهما، ثمّ تكلّم مؤمن الطاق بكلامه فغلبه به. فقال: أريد أن أناظرك في الاستطاعة, فقال للطيّار: “كلّمه فيها”, قال: فكلّمه فما ترك يكشر، فقال أريد أناظرك في التوحيد, فقال لهشام بن سالم: “كلِّمه”, فسجل35 الكلام بينهما ثمّ خصمه هشام، فقال: أريد أن أتكلّم في الإمامة, فقال لهشام بن الحكم: “كلِّمه يا أبا الحكم”, فكلَّمه فما تركه يرتم37 ولا يحلي ولا يمرّ36 ، قال: فبقي يضحك أبو عبد الله عليه السلام حتّى بدت نواجذه. فقال الشاميّ: كأنّك أردت أن تخبرني أنّ في شيعتك مثل هؤلاء الرجال؟ قال: “هو ذلك …”38 .

والنموذج الثاني: جابر بن حيّان: الطوسيّ، الخراسانيّ، وقيل: الحرّانيّ، الكوفيّ، المعروف بالصوفيّ. من مفاخر علماء الشيعة الإماميّة، ومن مشاهير علماء الفلسفة والحكمة والطبّ والرياضيّات والفلك والمنطق والنجوم، وكان متصوّفاً، أديباً، زاهداً، واعظاً، مؤلّفاً في شتّى صنوف العلم والمعرفة. تتلمذ على الإمام الصادق، وأخذ علومه ومعارفه عنه عليه السلام.

من تآليفه الكثيرة كتاب الخواص الكبير، والدرّة المكنونة، ورسائل جعفر الصادق عليه السلام، والحدود، والفهرست، والخمسمائة، والشعر وغيرها39 . وقال ابن خلكان: ألّف كتاباً يشتمل على ألف ورقة تتضمّن رسائل جعفر الصادق وهي خمسمائة رسالة40 .

والمؤرّخون – إلّا بعضاً من غير المسلمين – متّفقون على تلمذته للإمام عليه السلام. وعلى صلته أو تأثّره به في العلم والعقيدة. يقول جابر في كتابه الحاصل: ليس في العالم شيء إلّا وفيه من جميع الأشياء. والله لقد وبّخني سيّدي (يقصد الإمام الصادق) على عملي, فقال: “والله يا جابر لولا أنّي أعلم أنّ هذا العلم لا يأخذه عنك إلّا من يستأهله وأعلم علماً يقيناً أنّه مثلك، لأمرتك بإبطال هذه الكتب من العلم”41 .

قال ابن النديم: والرازي يقول في كتبه المؤلّفة في الصنعة: قال أستاذنا أبو موسى جابر بن حيان42 .
قال جرجي زيدان في مجلّة الهلال- على ما حكي عنه-: إنّه من تلامذة الصادق عليه السلام، وإنّ أعجب شيء عثرت عليه في أمر الرجل أنّ الأوروبيّين اهتمّوا بأمره أكثر من المسلمين والعرب، وكتبوا فيه وفي مصنّفاته تفاصيل، وقالوا: إنّه أوّل من وضع أساس الشيمي(Chimie) الجديد, وكتبه في مكاتبهم كثيرة، وهو حجّة الشرقيّ على الغربيّ إلى أبد الدهر!43 .

قال الزركليّ: وله تصانيف كثيرة قيل: عددها 232 كتاباً، وقيل: بلغت خمسمائة. ضاع أكثرها، وترجم بعض ما بقي منها إلى اللاتينيّة..ولجابر شهرة كبيرة عند الإفرنج بما نقلوه من كتبه، في بدء يقظتهم العلميّة. قال برتلو (M.Berthelot): لجابر في الكيمياء ما لأرسطوطاليس قبله في المنطق، وهو أوّل من استخرج حامض الكبريتيك وسمّاه زيت الزاج، وأوّل من اكتشف الصودا الكاوية، وأوّل من استحضر ماء الذهب، وينسب إليه استحضار مركّبات أخرى مثل كربونات البوتاسيوم وكربونات الصوديوم. وقد درس خصائص مركّبات الزئبق واستحضرها). وقال لوبون (G.le Bon) : تتألّف من كتب جابر موسوعة علميّة تحتوي على خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره. وقد اشتملت كتبه على بيان مركّبات كيماويّة كانت مجهولة قبله. وهو أوّل من وصف أعمال التقطير والتبلور والتذويب والتحويل الخ44 .

وقال الدكتور أحمد فؤاد الأهوانيّ في مقال له: ومع أنّ جابراً كان على سنّة مفكّري العرب وفلاسفتهم مشاركاً في جميع العلوم من فلك ورياضيّات وطبّ ومنطق وفلسفة، إلّا أنّ عنايته الكبرى اتّجهت إلى الكيمياء، وألّف في هذا العلم- أو (الصنعة) كما كانت تسمّى عند العرب- التصانيف الغزيرة، وأجرى التجارب الكثيرة، ورسم له منهجه، وحدَّد موضوعه، وحاول أن يردّه إلى أصول نظريّة، فكان بذلك، وبحقّ، مؤسّس علم الكيمياء. وقامت على أساس مباحثه مدرسة، وظهر بعده تلاميذ، وأصبح علم الكيمياء ينسب إليه، وأضحى جابر عَلَمَاً عليه، كما يقال (أبقراط) عنواناً على الطبّ، أو (بطليموس) عَلَمَاً على الفلك. وحين اتّجهت أوروبا إلى العرب تغترف من بحر علومهم، لم تجد إماماً في الكيمياء سوى جابر، فنقلت اسمه وكتبه وعلمه، واشتهر عندهم باسم( Geber) وباللاتينيّة (Geberus) كما نقلوا عن تلميذه الرازي…45

هذا غيض من فيض صادق آل محمّد عليهم السلام, ونختم بما قاله بعض الباحثين:
حقّاً إنّ شخصيّة جعفر الصادق لا تزال غامضة تحتاج إلى من يكشف كنهها من المؤرّخين- إلى أن يقول-: وما دام يكتنف مثل هذه الشخصيّة الفذّة الظلام, فكثير من الحقائق ستظلّ في طيّ الخفاء, وستظلّ في جهل مدقع في فهم كثير من تراثنا الفكريّ, لأنّ التعصّب الذميم هو الذي طمس المعالم ووضع أمامنا سدّاً حائلاً دون تفهّم كنه الأساسات العميقة في بناء الحضارة العالميّة46.

*صادق العترة, سلسلة مجالس العترة, نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

1- حيدر أسد: الإمام الصادق عليه السلام والمذاهب الأربعة ج 1 ص 159.
2- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 53.
3- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 179.
4- النجاشيّ: رجال النجاشيّ ص 40.
5- الشافعيّ كمال الدّين محمّد بن طلحة: مطالب السؤول في مناقب آل الرسول ص 110- 111.
6- الجنديّ عبد الحليم: الإمام جعفر الصادق عليه السلام ص 106.
7- الذهبيّ: تاريخ الإسلام ج 9 ص 89.
8- الشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة ج 9 ص 380 عن التحفة الإثني عشريّة للآلوسيّ ص 8.
9- القرشيّ الشيخ باقر شريف: حياة الإمام الصادق عليه السلام ج 1 ص 77.
10- أنظر: المزّي: تهذيب الكمال ج 5 ص 79, الذهبيّ: تاريخ الإسلام ج 6 ص 257, المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 217- 218, وغيرهم..
11- حيدر أسد: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 1 ص 55.
12- الصدوق: علل الشرائع ج 1 ص 275.
13- الشافعيّ الشيخ كمال الدين محمّد بن طلحة: مطالب السؤول في مناقب آل الرسول ج 2 ص 111- 112.
14- حيدر أسد: الإمام الصادق عليه السلام والمذاهب الأربعة ج 1 ص 160 بتلخيص وتصرّف.
15- الطهرانيّ الآغا بزرك: حصر الاجتهاد ص 37- 41.
16- المطهريّ مرتضى: سيرة الأئمّة الأطهار ص 114.
17- في هامش الكافي: وابن أبي العوجاء هو عبد الكريم كان من تلامذة الحسن البصريّ فانحرف عن التوحيد فقيل له تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة؟ فقال: إنّ صاحبي كان مخلّطاً كان يقول طوراً بالقدر وطوراً بالجبر وما أعلمه اعتقد مذهباً دام عليه, وابن المقفّع هو عبد الله ابن المقفّع الفارسيّ المشهور الماهر في صنعة الإنشاء والأدب كان مجوسيّاً أسلم على يد عيسى بن عليّ عمّ المنصور بحسب الظاهر وكان كابن أبي العوجاء وابن طالوت وابن الأعمى على طريق الزندقة وهو الذي عرّب كتاب كليلة ودمنة.
18- العقال: ما يشد به البعير, والمعنى: يعقلك بتلك المقدمات التي تسلمت منه بحيث لا يبقى لك مفر كالبعير المعقول.
19- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 74.
20- المصدر السابق ج 1 ص 306.
21- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشيّ ج 1 ص 412- 415.
22- المصدر السابق ج 2 ص 418.
23- النجاشيّ: رجال النجاشيّ ص 213.
24- الحلّي: خلاصة الأقوال ص 195.
25- الخوئيّ: معجم رجال الحديث ج 11 ص 103.
26- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشيّ ج 2 ص 418.
27- المصدر السابق ج2، ص 518.
28- النجاشيّ: رجال النجاشيّ ص 309.
29- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشّي ج 2 ص 473.
30- ستوق: درهم زيف ملبّس بالفضّة.
31- الخوئيّ: معجم رجال الحديث ج 18 ص 34- 37.
32- الخوئيّ: معجم رجال الحديث ج 20 ص 297- 311.
33- بكسر الراء, أي تعب ووقف.
34- كشر عن أسنانه يكشر: أبدى، والكشر التبسّم, ويكون في الضحك وغيره, يقال: كشر عن أسنانه إذا أبداها.
35- أي أخذ الكلام مرّة يكون لهذا وأخرى يكون لذاك.
36- ما رتم فلان بكلمة: ما تكلّم بها.
37- يقال: ما أمرَّ ولا أَحلى, إذا لم يقل شيئاً.
38- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 407- 409.
39- الشبستريّ عبد الحسين: الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق عليه السلام ج 1 ص 277.
40- ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ج 1 ص 327.
41- الجنديّ عبد الحليم: الإمام جعفر الصادق عليه السلام ص 223- 224, وقال ص 290- 291: وما الاجتهاد إلّا الحريّة الفكريّة في استخلاص النتائج، والنزاهة العلميّة أو الاعتبار “بالواقع والصحيح”. وهاتان العجلتان اللتان تحملان موكب الفكر الإنسانيّ المنجب, هما شعار مجالس الإمام الصادق.. بل هما أساس ما استخلصه تلميذه جابر بن حيّان من تجاربه العلميّة, وعنه انتقل إلى أوربة المنهج التجريبيّ أو منهج “التجربة والاستخلاص” كما يسمّى في العصور الحديثة.
42- البغداديّ ابن النديم: الفهرست ص 547.
43- الخوئيّ: معجم رجال الحديث ج 4 ص 328.
44- الزركليّ: الأعلام ج 2 ص 103.
45- الأمين السيّد محسن: أعيان الشيعة ج 1 ص 31.
46- الهاشميّ الدكتور محمّد يحيى: الإمام الصادق عليه السلام ملهم الكيمياء ص 210.

المصدر : شبكة المعارف الإسلامية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى