مقالات

تجليات المقام المعنويّ للسيّدة الزهراء عليها السلام

نحن لا نملك القدرة على إدراك المقامات المعنوية للسيدة الزهراء عليها السلام، وفهمها بالشكل الكامل. وفي الحقيقة، الله (تعالى) وحدَه يعرف أمثال هؤلاء العباد الذين يكونون في أوج قمّة المعنويّة الإنسانيّة والتّكامل البشريّ -، وأولئك الذين يكونون في مقامهم نفسها – لهذا لم يكن هناك من يعرف فاطمة الزّهراء عليها السلام سوى أمير المؤمنين عليه السلام، وأبيها صلى الله عليه وآله وسلم، وأولادها المعصومين عليهم السلام. فلا يمكننا نحن في هذا الزّمن، ولا للنّاس الذين كانوا في ذاك الزّمان والأزمنة التي تلته، أن نُشخّص ذلك التألّق المعنويّ الّذي كان موجوداً فيها. فلا يمكن لنور المعنويات السّاطع أن يصل إلى عيون جميع الأشخاص، وتعجز عيوننا الضّعيفة والقاصرة عن أن ترى تجلّي الإنسانيّة السّاطع الّذي كان موجودًا في هؤلاء العظماء.

فالسيدة فاطمة الزّهراء عليها السلام هي في الظاهر بصورة بشر، وامرأة، وامرأة شابّة أيضًا، ولكنّها في المعنى هي حقيقةٌ عظيمة، ونورٌ إلهيٌّ ساطع، وعبدٌ صالح، وإنسانٌ مميّز ومصطفى. هي الشخص الذي قال فيه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام: “يا عليّ، أنت إمام أمّتي وخليفتي عليها بعدي، وأنت قائد المؤمنين إلى الجنّة، وكأنّي أنظر إلى ابنتي فاطمة قد أقبلت يوم القيامة على نجيبٍ من نور، عن يمينها سبعون ألف ملك، وعن يسارها سبعون ألف ملك، وبين يديها سبعون ألف ملك، وخلفها سبعون ألف ملك تقود مؤمنات أمّتي إلى الجنّة”[1]، أي أنّه يوم القيامة يقود أمير المؤمنين عليه السلام الرجال المؤمنين، وتقود فاطمة الزّهراء عليها السلام النساء المؤمنات إلى الجنّة الإلهيّة، فهي عِدْل أمير المؤمنين عليه السلام. هي الّتي إذا وقفت في محراب العبادة، فإنّ آلاف الملائكة المقرَّبين لله يُخاطبونها ويُسلّمون عليها ويُهنّئونها، ويقولون لها ما كانوا يقولون في السّابق لمريم الطّاهرة عليها السلام: “يا فاطمة إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين”[2]. هذا هو المقام المعنويّ لفاطمة الزّهراء عليها السلام.

امرأةٌ في سنّ الشباب، وصلت، بلحاظ المقام المعنويّ، ووفق ما نُقل في الروايات، إلى حيث تُحدّثها الملائكة، وتظهر لها الحقائق. “المحدَّثة” أي من تُحدّثها الملائكة وتتكلّم معها. وهذا المقام المعنويّ، والميدان الوسيع، والقمّة الرّفيعة هي في مقابل جميع نساء عالم الخلقة. إنّ فاطمة الزّهراء عليها السلام في قمّة هذا العلوّ العظيم، تقف وتُخاطب كلّ نساء العالم، وتدعوهنّ لطيّ هذه الطّريق.

كما أنّ الخير الكثير الّذي أعطاه الله تعالى في سورة الكوثر المباركة كبشارةٍ للنّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾[3]، تأويله أنَّ فاطمة الزّهراء عليها السلام، في الحقيقة، مجمع جميع الخيرات الّذي سوف ينزل يومًا بعد يوم من منبع الدّين النبويّ على كلّ البشريّة والخلائق. وقد سعى الكثيرون من أجل إخفائه وإنكاره، ولكنّهم لم يتمكّنوا، ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[4].

وذُكِر في رواية أنّ سطوع نور فاطمة الزّهراء عليها السلام أدّى إلى أن تنبهر عيون الكرّوبيّين من الملأ الأعلى، “زهر نورها لملائكة السّماء”. فماذا نستفيد نحن من هذا النّور والسّطوع؟ يجب علينا الاهتداء بهذا النّجم السّاطع إلى الله وإلى طريق العبوديّة الّذي هو الصّراط المستقيم، الّذي سلكته فاطمة الزّهراء عليها السلام، فوصلت إلى تلك المدارج والمقامات العالية.

الزهراء عليها السلام وصلت إلى مقام ومكانة عالية بحيث يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويُقبّل يدها! وتقبيل يد فاطمة الزّهراء عليها السلام من قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا ينبغي أن يؤخذ أبدًا على معنىً عاطفيّ، فإنّ هذا أمرٌ خاطئٌ جدًّا وحقيرٌ جدًّا فيما لو تصوّرنا بأنّه يُقبّل يدها فقط لأنّها ابنته ولأنّه يُحبّها. فهل يُمكن لشخصيةٍ بمثل هذه العظمة، وبمثل تلك العدالة والحكمة، الّتي كانت في النبيّ، الذي يعتمد على الوحي والإلهام الإلهيّ، أن ينحني ليُقبّل يد ابنته؟ كلّا، إنّ هذا أمرٌ آخر، وله معنىً آخر. إنّه يحكي عن أنّ هذه الفتاة وهذه المرأة عندما ترحل عن هذه الدنيا في عمر 18 أو 25 ــ قيل 18، وقيل 25 ــ تكون في أوج الملكوت الإنسانيّ، وشخصًا استثنائيًّا.

فهذه السّيّدة الجليلة حازت على كلّ هذه الفضائل وتلك المكانة خلال ذلك العمر القصير. وكلّ هذه الفضائل لم تحصل عبثًا، “امتحنك الله الّذي خلقك قبل أن يخلقك، فوجدك لما امتحنك صابرة”[5]، فإنّ الله تعالى قد امتحن زهراء الطّهر، وهي المصطفاة من عباده.

تاريخ النبي وأهل البيت عليهم السلام، دار المعارف الإسلامية الثقافية


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 43، ص 24.
[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج43، ص24.
[3] سورة الكوثر، الآية 1.
[4] سورة الصف، الآية 8.
[5] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج97، ص 194.

2023-12-27

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى