مقالات

رغم غيبته، العالم رهن وجوده

ليس لإمام العصر وحجة الله (عج) غيبة كلية، وما كان فهو الغيبة الجزئية، وهو حاضر على الدوام بغية إيصال فيض الوجود وأساس النعم. على هذا الأساس فقوانين وأصول الحجة دائمة الاستفاضة والفيض. فهو يستلهم الفيض على الدوام ويبثه باستمرار وقد كان الجعل والتقدير الإلهي ليكون على هذه الشاكلة.

في هذا الضوء نعرف أن أهم فائدة في وجود الحجة هي: آثار ولايته التكوينية. فلابدّ أن يكون الحجة والولي من زاوية ناموس التكوين وقانون الإبداع، وبحكم سدى ولحمة نظام الخلق الحكيم، حيث إن علام الوجود كما أوضحنا من قبل أيضاً – يقوم على أساس الأسباب، والوسائط، ويرتكن لوجود الفرد الكامل في السببية والوساطة، والذي هو نفسه واسطة الوسائط، وسبب الأسباب. إذن فتربية الجماهير، وإدارة شؤون المجتمع، ونشر تعاليم الإسلام في كل بقاع العالم، وتشكيل الحكومة الحقة واحد من العديد من آثار وجوده، وحينما لا يتسنى لهذا الأثر أن يكون عملياً – لحكم متعددة – ويؤجل تجسيده ويغيب الحجة عن أنظار الناس، عامة، تبقى آثار وجوده الأخرى – وهي الأساس – مترتبة على وجوده، بل تساوق وتعادل هذه الآثار نفس وجوده، وأحكام المتساويين واحدة، فثبوت كل منهما عين ثبوت الآخر، فما دام الحجة موجوداً العالم موجود، وما دام العالم موجوداً فالحجة موجود.

الخلاصة: بلوغ فيض الوجود التدريجي وتحقق مراحل الإفاضات الإشراقية، رهن وجوده، وهو أي – الحجة – كالمرآة الصقيلة إزاء مطلع أنوار الأزلية غير المتناهية، تعكس إطلالة الوجود على أرواح الكائنات – في مرحلتي الوجود والبقاء -.

من هنا فآثار وجود الحجة لا ينظر إليها محصورة في زاوية تربية المجتمعات، والحضور في أوساط الأمة، بل لابد من ملاحظة وجود هذه الحقيقة من زاوية قانون التكوين، والعلاقات الماهوية (العلية والسببية) أيضاً، لترى أن للحجة حضوراً علياً، وإن لم يكن لساخت الأرض بأهلها[1]، وبتعبير المتكلم المعروف الشيخ عبد الجليل القزويني الرازي: «إمام العصر، خاتم الأبرار، المهدي بن الحسن العسكري – عليه وعلى آبائه الصلاة والسلام – … وجود العالم رهن وجوده، والعقل والشرع منتظر ظهوره ولقائه..»[2].

ما قيل حتى الآن كان إشارة للآثار الوجودية للحجة الغائب من بعد الوساطة التكوينية، أما في بعد الوساطة التشريعية ومسألة هداية وتربية البشرية فلا بد من القول: إن الغيبة من زاوية هذا البعد لها – يقينا – آثار سلبية، فلا يمكن أن يكون حرمان الإنسان من إدراك حضور المربي الأكبر والحجة البالغة أمراً يسيراً. غير أن هذا الحدث وقع وفق علل وحكم، فأدى إلى غيابه لكي لا تذهب آثار الهداية والتربية كلياً.

لقد وقعت غيبة الإمام الكبرى في ظروف توفرت على الإمكانات التالية:
1- كتاب الله.
2- سنة الرسول (ص).
3- أحاديث وأقوال وتعاليم الأحد عشر إماما.
4- السيرة العملية وأسلوب حياة الأحد عشر إماماً طليلة 250 عاماً في أبعادها المختلفة: الالتزام والمسؤولية والتربية والإقدام والحماسة والإيثار..
5- مرحلة «70 عاماً» الغيبة الصغرى، ومجموعة التعاليم والإرشادات التي أفاض بها الإمام الغائب طوال تلك المدة، والتي وضعها في يد الأمة – كما أشرنا من قبل – نوابه وسفراؤه.
6- وجود جمع من علماء وعظام الشيعة، الذين مروا بمراحل تربوية وتعليمية في ظل مدرسة أهل البيت (ع)، مع الواسطة القريبة جداً لمنبع هذه التعاليم.

سمعنا عن الفيلسوف الكبير الفارابي وعن بعض آخر من العظام والفلاسفة انهم قالوا: حينما يغيب رئيس المدينة الفاضلة، لابد من العمل بسنن وقوانين السلف. وقد حول علماء التشيع هذا النهج إلى سيرة عملية. من هنا – ومع وجود هذه التركة التربوية العظمى، التي تنسحب على أبعاد الحياة المختلفة، ومع وجود خط النيابة العامة في عصر الغيبة الكبرى – نلاحظ أن الآثار الوجودية في الغيبة لا تنتفي ولا تنقطع بشكل كامل.

إذن فالمثال الذي يضربونه للإمام الغائب بالشمس الملبدة بالغيوم يصدق تماماً: فالشمس شمس سواء كانت مصرحة جلية وسواء كانت ملبدة بالغيوم، ولها كل آثارها الوجودية، غايته أنها حينما تتلبد بالغيوم لا يصل شعاهها الذهبي للعيون، غير أن بقية آثارها دائمة ومستمرة.

ذكر أستاذنا الكبير الشيخ مجتبى القزويني الخراساني – وهو من نوادر عصره، ومن المحظوظين – فوائد وجود الإمام الأكبر المهدي الموعود (عج) في حال الغيبة ببيان ممتزج بوعي للواقع. يحسن بنا هنا أن نصغي لحديثه، وندع العندليب الواله يحكي مقولته:

لا يزال الإمام في حال الغيبة – التي وقعت على أثر انحراف الناس أنفسهم – حجة، وحينما تبتغيه الناس بإخلاص سوف يظهر، وهو في نفس الوقت الذي يغيب فيه عن الأنظار يقوم بــــ:
1- يقضي حوائج المتوجهين إليه والمتوسلين بمقامه.
2- يمد الطالبين في حل مشكلات علوم الدين، والوصول إلى المعرفة.
3- تؤثر إرادته ودعاؤه في تحويل قلوب المتسلطين والمتنفذين.
4- حيث إنه شاهد على أعمال الأمة، تنصرف الجماهير المؤمنة عن ارتكاب الحرام والمخالفة، وتسلك سبيل الصلاح والتقوى.
5- تعهد بتربية وإيصال النفوس المستعدة مراتب السلم في مسيرة التكامل الروحي. ويسعف السالكين على بصيرة، ويحفظهم عن الوقوع في شراك الأدعياء والمشعبذين والمتلبسين برداء الدين[3].

* محمد رضا حكيمي – بتصرّف


[1]  أصول الكافي، كتاب الحجة، باب أن الأرض لا تخلو من حجة، الحديث 1 – 13.
[2]  كتاب النقض، طبع المحدث الارموي، مقدمة الكتاب، ص 6.
[3]  بيان الفرقان، ج 5، وانظر أيضاً كفاية الموحدين ج 3.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى