مقالات

دلالات القلق من الموت عند الإنسان

من الضروريّ أن ننتبه إلى قضية مهمّة قبل أن نُناقش هذا الإشكال الموجّه انطلاقاً من مسألة عدالة النظام الوجودي، وهذه القضية هي أنّ هاجس الخوف من الموت خاص بالإنسان، فباقي الحيوانات لا تُفكّر بالموت والموجود فيها غريزة الفرار من الخطر ونزعة حفظ حياتها، وهذه النزعة من لوازم الحياة عموماً، ولكن وجودها في الإنسان مقرونٌ بالاهتمام بالمستقبل والبقاء فيه، أي يوجد فيه بعبارة أخرى الأمل بالخلود، وهذا الأمل من مختصّاته.

والأمل فرعٌ لتصوّر المستقبل، والأمل بالخلود فرع لتصوّر الأبدية، وهذا التصوّر هو من الأفكار الخاصّة بالإنسان، ولذلك شغل هاجس الخوف من الموت فكره باستمرار، وهذا الهاجس شيءٌ آخر غير غريزة الفرار من الخطر التي تتمظهر في كلّ حيوان بشكل ردّة فعل مؤقّتة وغير محسوبة تجاه الأخطار، وهذا ما يظهر أيضاً في الإنسان وهو طفل قبل أن تتبلور فيه نزعة الأمل بالبقاء كفكرة.

وهاجس الخوف من الموت، وليد الميل للخلود، وحيث لا يوجد في نظام عالم الطبيعة أي ميل لا يستند إلى قاعدة تسوغه، لذلك يمكن اعتبار وجود هذا الميل دليلاً على بقاء الإنسان بعد الموت، أي أنّ كون التفكير بالفناء يؤذينا هو – بحدّ ذاته – دليلٌ على أنّنا لا نفنى، ولو كانت حياتنا محدودة ومؤقّتة – كما هو حال الورود والنباتات – لما كان الأمل بالخلود نزعة متأصّلة وميلاً أصيلاً في وجودنا.

إنّ وجود العطش دليلٌ على وجود الماء، وكذلك الحال مع وجود أيّ ميل واستعداد أصيل، فهو يدلُّ على وجود كمال يتوجّه إليه ذلك الميل والاستعداد، وكأنّ كلّ استعداد وميل يُمثّل السابقة الذهنية والتذكرة التي تُذكّر بالكمال الذي يجب السعي إليه.

وانشغال ذهن الإنسان باستمرار بالأمل بالخلود وهواجس الخشية من عدم تحقّقه هو من تجليات فطرة رفض الفناء والعدم في الإنسان، فهو دليل على أنّه لا يفنى، وهذه الهواجس هي كالأحلام التي تُعبّر عن تجليات في المنام لملكات الإنسان ومشهوداته في عالم اليقظة، فما يظهر في عالم الرؤيا هو تجليات لأحوال طرأت على أرواحنا في عالم اليقظة أو ترسّخت فيها أحياناً، وما يتجلّى في أرواحنا في عالم اليقظة من نزوع وأمل بالخلود – وهو نزوع لا يتجانس أصلاً مع الحياة الدنيوية المؤقّتة – إنّما هو تعبير عن حقيقتنا الوجودية الخالدة التي ستُحرّر – شاءت أم أبت – من “وحشةِ سجن الإسكندر”[1]، و”ستجمع رحالها وستصل إلى ملك سليمان”[2].

إنّ أمثال هذه التصوّرات والأفكار والآمال تُعبّر عن تلك الحقيقة التي يُسمّيها الفلاسفة والعرفاء “غربة” الإنسان أو “عدم تجانسه” مع هذا العالم الترابي.

الإنسان والحياة، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


[1] ترجمات نثرية لصورٍ شعرية.
[2] ترجمات نثرية لصورٍ شعرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى