مقالات

الطباطبائي وأسباب النزول

يرى علماء التفسير والشريعة أن علم أسباب النزول هو من العلوم القرآنية التي لا يُستغنى عنها ، مما لها من فوائد اتفق العلماء عليها ، إذ من دونها لا سبيل إلى معرفة الأحكام الشرعية ، وقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، أنه قال : «اعلموا رحمكم الله أنه من لم يعرف من كتاب الله : الناسخ والمنسوخ ، والخاص والعام ، والمحكم والمتشابه ، والرخص من العزائم ، والمكي من المدني ، وأسباب النزول ، فليس بعالم القرآن ولا هو من أهله» (1) .

ويرى الطباطبائي ، أن الحوادث والأحداث التي وقعت أيام الدعوة ، وكذلك الحاجات الضرورية من الأحكام والقوانين الإسلامية ، هي التي تسببت في نزول كثير من السور والآيات ، ومعرفة هذه الأسباب يساعد إلى حد كبير في معرفة الآية المباركة ، وما فيها من المعاني والأسرار (2) .

ومما قاله «الواحدي» في أسباب النزول ، «إذ هي أوفى ما يجب الوقوف عليها ، وأولى ما تصرف العناية إليها ، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها ، دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها» (3) .

إذن ، علم أسباب النزول هو الذي يتكفل بالكشف عن الأحداث التاريخية ، والوقائع التي كانت من دواعي نزول النص القرآني ، فالنظر في القرآن الكريم ، ومعرفة ما نزل منه ابتداءً دون ما سابق أثر ، وما نزل منه لسبب سابق ، وما نزل مفصحاً عن السبب ، أو مجيباً عنه ، أو مبيناً لحكمه ، ومدى أخذ واقع الآية وما رافقها من ظروف وأحداث وأشخاص بنظر الاعتبار في مدلولها ، كل ذلك وما إليه تكفل ببيانه علم أسباب النزول . . (4) .

إن ما يعنينا في هذه الدراسة ، هو موقف الطباطبائي من أسباب النزول ، والآثار التي تركها هذا العلم على منهج وأسلوب المفسّر في تناوله للآيات والروايات . وكما رأينا في دراسة المكي والمدني ، فإن الطباطبائي تميز في كونه أخرج العلوم القرآنية من كونها مستغرقة في التاريخ ومتناثرة بالأهواء والآراء ، لتكون علوماً قرآنية هادفة إلى فهم القرآن وتفسيره على النحو الذي يصيب الحكمة في ما أنزله الله تعالى ، وقد اقتضى هذا الأمر من الطباطبائي أن يكون تفسير القرآن بالقرآن سبيله للوقوف على حقيقة الكثير من النصوص والروايات لنقدها وتمحيصها بما يؤدي إلى معرفة أسباب النزول على حقيقتها ، باعتبارها المدخل الحقيقي لعلوم القرآن ، وذلك من حيث تأثيرها الواضح فيما جاء في النص من عام وخاص ، ومطلق ومقيد ، وغيرها ، فليس العلم بها لمجرد العلم ، وإنما لكونها تخصص العام القرآني وتقيد مطلقه ، وتفصل مجمله (5) ، وقد تواترت الروايات القطعية في أنه لا يحق لمن لا يعرف هذا العلم أن يفسّر النص القرآني كما بين الإمام الصادق (عليه السلام) (6) .

لقد انصبّ جهد الطباطبائي في علم أسباب النزول على تمييز الروايات وفاقاً للآيات والنصوص القطعية ، قناعة منه بأن النص القرآني بات محكوماً لكثير من الروايات والآراء التي تحولت من كونها آراءً نظرية لتكون أسباب نزول ، وهو من خلال منهجه القرآني استطاع تفنيد الكثير من الروايات ، فأسقطها عن درجة الإعتبار ، لكونها روايات اجتهادية في جانب ، وسياسية في جانب آخر ، وهذا ما عبر عنه بقوله : «وإنما أوردت هذه الرواية . . . ليتبصر الباحث المتأمل أن ما ذكروه من أسباب النزول كلها أو جلّها نظرية ، بمعنى أنهم يروون غالباً الحوادث التاريخية ، ثم يشفعونها بما يقبل الإنطباق عليها من الآيات الكريمة ، فيعدونها أسباب النزول ، وربما أدى ذلك إلى تجزئة آية واحدة ، أو آيات ذات سياق واحد ، ثم نسبة كل جزء إلى تنزيل واحد مستقل ، وإن أوجب ذلك اختلال النظم للآيات وبطلان سياقها . . . وأضف إلى ذلك ، أن لاختلاف المذاهب تأثيراً في لحن هذه الروايات . . . على أن للأجواء السياسية والبيئات الحاكمة في كل زمان أثراً قوياً في الحقائق ، من حيث إخفائها أو إبهامها . . .» (7) .

هذا الكلام من المفسّر يكشف عما آلت إليه الأمور في حياة الناس ، وفي مدارس علوم القرآن . إذ باتت النصوص الدينية أسيرة الأهواء المذهبية والسياسية ، وليس هذا موقف من الطباطبائي يتفرد به ، بل هذا ما ذكره الواحدي في أسباب النزول ، كاشفاً عما آل إليه وضع العلماء في زمانه من تساهل في رواية أسباب النزول ، يقول : «كأنهم لا يلقون بالاً إلى الوعيد الذي أنذر الله به كل مَن افترى على الله كذباً ، فقال متألماً : وأما اليوم فكل أحد يخترع شيئاً ، ويختلق إفكاً وكذباً ، ملقياً زمامه إلى الجهالة ، غير مفكر في الوعيد للجاهل بسبب الآية . . .» (8) .

وهكذا ، فإن الطباطبائي لم يرد في حياته العلمية ، وفي اجتهاده الشرعي ، أن يكون معترضاً ، أو مراقباً لما شهدته وتشهده الحياة الإسلامية والقرآن الكريم من افتراء تحت عناوين دينية وسياسية ، بل حمله وعيه وعلمه واجتهاده على تنقية العلوم القرآنية مما شابها من آراء واجتهادات وتأويلات شتى ، فكان منهجه الجديد في تفسير القرآن الكريم ليحكم من خلال مضامين آياته ، والتدبر في سياقها على كثير من الروايات والأحاديث التي لا تنسجم مع رؤيته التوحيدية ، ولا تعبر عن السنة القطعية التي تفسّر القرآن ، كما في الكثير من الأحاديث التي لولاها لما استبان التخصيص في عام (9) ، ولا مطلق من مقيد (10) ، ولا مُبين من مجمل (11) ، وغير ذلك مما لأسباب النزول دخالة عظمى فيه ، وأثر كبير في كشفه وبيانه .

كما أن الطباطبائي ، فيما اختاره من طريقة وأسلوب ومنهج قرآني ، قد وفق أيما توفيق في وضع اليد على كثير من الروايات التي لا تصلح لأن تكون دليلاً ، أو سبباً للنزول بسبب تعارضها وتناقضها وضعف أسانيدها ، ويمكن لأي باحث أن يتلمس ذلك في تفسير الميزان ، وهذا لا يعني مطلقاً أن الطباطبائي قد أحدث توجهاً جديداً في علم أسباب النزول ، وإنما حكّم الآيات ومضامينها في هذا العلم ، فبدلاً من أن تكون الرواية حاكمة على النص القرآني ، جعل النص القرآني حاكماً عليها ، خلافاً لما كانت تحدثه السياسة والأطماع ، أو تسوِّغه المصالح الإجتماعية والسياسية . ولعلنا لا نجافي الحقيقة إن قلنا : إن الطباطبائي سار على خطى أسلافه من العلماء في التأسيس على القواعد الشرعية المعتبرة في الأصول والفقه ، ولكنه تميز عنهم في منهج تفسير القرآن بالقرآن ، الذي على أساسه بنى المفسّر موقفه من رويات أسباب النزول ، فإذا لم تكن متواترة ، أو قطعية الصدور ، فإنه يجب عرضها على القرآن الكريم ، عملاً بقول المعصوم (عليه السلام) : «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله تعالى ، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به» (12) .

لا شك في أن طريقة الطباطبائي هذه أسقطت الكثير من روايات أسباب النزول عن الإعتبار ، وما تبقى مما ينسجم مع روح الآيات يكسب كل الاعتبار والوثوق (13) . على أن هذه الطريقة المبتكرة للطباطبائي ، وإن كانت قد تميزت فيما احتكمت إليه من مضامين قرآنية إلى جانب الطرق المعتبرة في دراسة أحوال الرجال والمتون والمسانيد وغير ذلك ، ولكنها برّزت الجانب القرآني وسياق آياته لإصدار الأحكام النهائية على الروايات . ومما تجدر الإشارة إليه هنا ، هو أن الفرق بين الطباطبائي وغيره من المفسرين ممن ركزوا على مسانيد الروايات ، هو أن المفسر يرفض الخبط الذي نظر له السيوطي في الإتقان حول تعدد أسباب النزول ، لأنه كثيراً ما يُدّعى صحة المسانيد ، وتكون مضامين الروايات مخالفة للنص القرآني ، فأيهما يكون مورد القبول . فالمفسر الطباطبائي بمقتضى منهجه كان يهتم بمتون الروايات ويعتبرها أساساً لصحة الرواية أو ضعفها ، إن وافقت النص القرآن أو خالفته على الترتيب (14) . أما السيوطي ، وغيره من المفسرين ، فكانت صحة السند أساساً في قبول الرواية ، وقد أورد «صبحي الصالح» في بحثه القرآني عن أسباب النزول ما يثير العجب فيما رواه عن الواحدي ، والطبري ، والسيوطي ، وغيرهم كثير (15) ، حيث بلغ الأمر حد الخرافة في روايات أسباب النزول ، وهذا ما كان موضع تدبر عند الطباطبائي (16) .

مما تقدم ، يمكن أن نعرض لعناوين كبرى برّزها الطباطبائي في علم أسباب النزول ، وينبغي أن تكون موضع تدبر واهتمام من قبل الباحثين في علوم القرآن ، ومن هذه العناوين ما ذكره الطباطبائي من أن الأهداف القرآنية العليا التي هي المعارف العالية والدائمة لا تحتاج كثيراً ، بل لا تحتاج أصلاً إلى أسباب نزول (17) ، وهنا يبدو لنا فارق أساسي بين الطباطبائي وغيره من المفسرين ، وهو وإن لم يكن أساسياً ، إلاّ أنه كاشف عن رؤية عميقة للمفسر في مجال أسباب النزول ، إذ في الوقت الذي تحدث فيه المفسرون عما نزل ابتداءً (18) ، نجد المفسر يتحدث عن أهداف ومعارف عليا لا تحتاج إلى أسباب نزول ، وهذا بذاته كاشف عما يرمز إليه المفسّر من تأسيس قرآني ، لكونه يرى أن جميع المعارف الإلهية والحقائق الموجودة في القرآن تستند إلى حقيقة واحدة وهي أصلها جميعاً ، وهي التوحيد ، كما بينا في مبحث المكي والمدني . . (19) .

أما العنوان الثاني ، فهو متعلق بسبب النزول وأهمية معرفته ، وهو ما نزلت من أجله آية ، أو أكثر مجيبة عنه أو حاكية له ، أو مبينة حكمه ، وهذا ما له أمثلته الكثيرة في القرآن الكريم (20) ، وكما تواتر في الروايات عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ، أن أكثر الناس قدرة على التفسير ، أكثرهم علماً بأسباب النزول ، ولهذا كان أمير المؤمنين أقدر الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على تفسير القرآن ، لإحاطته علماً بأسباب النزول ، وهو القائل «والله ما نزلت آية إلاّ وأنا أعلم فيما نزلت ، وفيمن نزلت ، وأين نزلت (21) ، وهذا ما لم يستسغه صبحي الصالح (22) .

من العناوين البارزة التي يتفق فيها الطباطبائي مع المفسرين شكلاً ويختلف معهم في المضمون ، هو ما اصطلح عليه في علوم القرآن ، بتعدد الأسباب والنازل واحد ، أو تعدد النازل والسبب واحد ، ففي الأول قد ينزل الشيء أكثر من مرة ويكون معظماً لشأنه وتذكيراً به عند حدوث سببه خوف نسيانه كما ذكر الزركشي (23) ، ومثاله كما يرى السيوطي ، سورة الإخلاص التي نزلت مرتين ، مرة في مكة جواباً للمشركين ، ومرة في المدينة جواباً لأهل الكتاب من أهلها . وهكذا ، تعددت الأسباب والنازل واحد ، وهذا ما كان موضع إنكار للبعض ، على رواية السيوطي (24) .

أما في الثاني ، الذي هو تعدد النازل والسبب واحد ، فمثاله قوله تعالى : ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾ [آل عمران : 195] ، وقوله تعالى : ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ [الاحزاب : 35] .

حيث جاء في سبب هذه الآيات أن أم سلمة قالت : يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ، فأنزل الله تعالى الآيات الآنفة الذكر ، وبذلك يكون السبب واحداً ، وهو سؤال أم سلمة ، والنازل متعدداً ، وهو هاتان الآيتان من سورة آل عمران والأحزاب . وفي جميع الأحوال ، فإن الطباطبائي ، لا يرى أن العناوين هي موضوع النقاش والتساؤل ، أو القبول والرفض ، إنما التطبيقات وما يذكره القوم في روايات غير منسجمة مع النص القرآني ومضمونه ، على نحو ما مر معنا أن الآية الواحدة تذكر فيها عدة روايات في أسباب النزول يناقض بعضها بعضاً ، ولا يمكن جمعها بشكل من الأشكال (25) .

يبقى أن نشير إلى عنوان مهم ذو أهمية كبيرة في منهج الطباطبائي وتفسيره ، وهو القاعدة الأصولية التي تقول «إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» . فالطباطبائي ، كما جميع علماء الأصول ، يرى أن السبب الذي نزل إثره الوحي لا يحبس التشريع العام ولا يقيّده ، وإنما يكون ذلك السبب مجرّد مثير لنزول الوحي ، فيشمله الحكم النازل ، ويبقى هذا الحكم على عمومه سارياً على كل الوقائع والأحداث المماثلة لذلك السبب (26) ، وكما يرى الطباطبائي . أن ما ورد من شأن النزول لا يوجب قصر الحكم على الواقعة ، فالمورد لا يخصص الوارد ، لأن البيان عام والتعليل مطلق ، فإن المدح النازل في حق أفراد من المؤمنين ، أو الذم في حق أفراد آخرين معلل بوجود صفات فيهم ، لا يمكن قصرها على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم آخرين بعدهم ، وهكذا (27) .

عموماً يمكن القول : إن المفسر ينطلق في فهم القواعد والأصول من اعتقاد راسخ لديه ، أن القرآن نزل هدى للعالمين ، وما بينّه من المعارف القرآنية والحقائق الدينية لا يختص بقوم دون قوم ، أو بحال دون حال ، ولا بعصر دون عصر لعموم التشريع ، فالجري عند الطباطبائي ، والذي أشرنا إليه في بحوث سابقة ، هو عين القاعدة الآنفة «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» (28) . ولفظ الجري ، كما تقدم معنا ، مأخوذ من قول المعصوم ، أن القرآن يجري في حياة البشر مجرى الشمس والقمر ، وقوله (عليه السلام) «ظهر القرآن تنزيله ، وبطنه تأويله» . فالقرآن عند الطباطبائي له اتساع من حيث انطباقه على المصاديق وبيان حالها ، فالآية منه لا تختص بمورد نزولها بل يجري في كل مورد يتحد مع مورد النزول ملاكاً كالأمثال التي لا تختص بمواردها الأول ، بل تتعداها إلى ما يناسبها وهذا المعنى هو المسمى ، بجري القرآن (29) وقد تقدم الكلام في بحوثنا عن معنى الجري والتفسير ، حيث بين الطباطبائي ، أنه غالباً ما يخطئ بعض المفسرين فيسمون التفسير بالجري ، أو الجري بالتفسير ، ومن شاء الإطلاع على دقة المفسر في استخدام هذه القاعدة فلينظر إلى البحوث الروائية في تفسيره الميزان (30) .

وهكذا ، فإن خلاصة ما أفاده المفسّر رحمه الله ، أن أسباب النزول هي من الأهمية بحيث لا يمكن أن تفهم الأحكام الشرعية من دونها لما لها من فائدة في إظهار الحقائق والأحكام ، ولكن الطباطبائي تبقى له ميزته في كونه استطاع من خلال علم النزول وأسبابه أن يحدث نقلة نوعية في إطار المنهج والرؤية القرآنية ، إذ إنه لم يستند إلى الرواية وما تفيده من معنى إلاّ بعد عرضها على القرآن الكريم والتعرف إلى سياقها ، فإذا لم يقبلها السياق القرآني طرحها جانباً ، وهذا ما جعل من منهجه متميزاً لجهة التفسير والرواية معاً ، ولم يسبق لأحد من المفسرين أن خلص إلى نتائج مهمة كالتي خلص إليها الطباطبائي في تفسيره ، وإذا كان هذا يدل على شيء فإنه يدل على مدى ما تمتع به المفسّر من قدرات عقلية واجتهادية ، أخرجته عن كونه مجرد مفسّر للقرآن ، ليكون كاشفاً ومبدعاً لكثير من المواقف والحقائق الرسالية في تاريخ الأمة الحديث . . .

______________________________

  1. انظر : الشاهرودي ، على النمازي ، مستدرك سفينة البحار ، (ت : 1405 هـ) ، جماعة المدرسين ، قم ، 1419 ، ج8 ، ص200 .
  2. الطباطبائي ، القرآن في الإسلام ، م .س ، ص123 .
  3. الواحدي ، أبو الحسن علي بن أحمد النيسابوري ، أسباب النزول ، القاهرة ، ط1 ، 1379هـ ، ص4 .
  4. العطار ، داود ، موجز علوم القرآن ، م .س ، ص122 .
  5. لا شك في أن سبب النزول ليس مختصراً بالقاعدة الأصولية التي تقول : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، أو بأن المورد لا يخصص الوارد ، بل نجد أن منهج الطباطبائي يتجاوز ذلك إلى القول بأن سبب النزول بالنسبة للنص النازل يتدخل في عمليات البيان القرآني كلها ، فله أثر في تقييد المطلق ، وتأويل الظاهر ، وبيان المجمل ، وتخصيص العام ، ويبقى شرط ذلك كله عند الطباطبائي التدبر في السياق القرآني لإحكام الطوق على تناقضات روايات أسباب النزول . . . كما سنرى لاحقاً . . .
  6. انظر الطباطبائي ، الميزان ، م .س ، ج3 ، ص82 . فهو يقول فيمن ضل عن الطريق ، ونسي حظاً مما ذكر به ، «وذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض ، واحتجوا بالمنسوخ وظنوا أنه الناسخ . . . ويحتجّوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام ، واحتجوا بأول الآية ، وتركوا السبب في تأويلها ، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه . . . فضلوا وأضلوا» .
  7. م .ع ، م .س ، ج4 ، ص74 .
  8. الواحدي ، أسباب النزول ، م .س ، ج1 ، ص3 ـ 4 .
  9. قال تعالى : ﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ ﴾ [المائدة : 93] . فهذه الآية نزلت حين أمر رسول الله أن يُنادى : ألا أن الخمر قد حرمت . . . فالآية ترفع الجناح عن الذين آمنوا في كل ما طعموا ، فلفظها عام ، إلا أن سبب النزول بين أنها لأفراد مخصوصين . . . فلا احتجاج بعموم اللفظ على إباحة شرب الخمر ، لأن هذه الآية نزلت بعد التحريم العام للخمر . . . هذا مثال تطبيقي لأثر سبب النزول ، تأمل .
  10.  من أمثلة التطبيق لأثر سبب النزول في المطلق والمقيد ، وقبل هذا المثال نعرض باختصار لما ذهب إليه علماء الأصول فيما ذكروه عن تقييد إطلاق النص النازل إذا ما توفرت شروط هذا الأمر . الأول : أن يتعارض مطلق ومقيد ، والثاني : أن يكون المطلق والمقيد مما اتحد حكمه وسببه باتفاق ، أو مما قد اتحد حكمه واختلف سببه ، أما فيما يعني التطبيق وأثر سبب التنزيل ، فنعلم أن النص قد يأتي مطلقاً ويكون سبب نزوله مقيداً ، باعتبار أن أسباب النزول وما نزل لأجلها من جنس نصوص الشرع ، فيها العام والخاص والمطلق والمقيد ، والتطبيقات كثيرة لهذا الأمر ، ولكن من الأمثلة على ذلك ، قوله تعالى : ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ ، فقوله «فضلاً» مطلق ، لأنه نكرة في سياق الإثبات . . . إلاّ أنه مع العودة إلى سبب النزول ، فيتضح أن المراد بيانه ، هو ما ورد عن ابن عباس في سبب نزولها ، أنه قال : كانت عكاظ ومجنة أسواق في الجاهلية فتأثموا أن يتّجروا في المواسم فنزلت الآية ، فيظهر أن سبب النزول أبان الأمر ، واتضحت وظيفة سبب النزول في تقييد المطلق ، ومفاد ذلك عدم منافاة الإتجار للإحرام ، والحكم في المطلق والمقيد واحد ، وهو رفع الحرج . وفي مثل هذه الصورة يحمل المطلق على المفيد ويصبح معنى الآية ليس عليكم جناح أن تتجروا . راجع مجمع البيان للطبرسي ، م .س ، ج2 ، ص46 ، ومما قاله السيد الخوئي : «إن المطلق ليس ناسخاً للمقيد وإن جاء متأخراً عنه . انظر : البيان في تفسير القرآن ، م .س ، ص305 .
  11.  وهكذا الحال في أمر سبب النزول في المجمل والمبين ، إذ يمكن أن نعرض لمثال تطبيقي عن التيمم ، حيث من عادة القرآن أن يشرع أحكاماً بصيغة مجملة كالصلاة التي لم يبين كيفيتها ، ولا عدد ركعاتها ، أو الزكاة ، أو الصيام ، أو الحج ، ومن آثار أسباب النزول فيما يخص رفع الإجمال عن النصوص ، قوله تعالى : ﴿ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً ﴾ [النساء : 43] . نلاحظ أن حكم التيمم جاء مجملاً ، إذ لم تبين الآية القدر الواجب مسحه من اليدين ، هل هو الكفان ، أو إلى المرفقين ، أو إلى الإبطين؟ وهنا يظهر أن سبب النزول الذي أعطى بياناً أزال الإبهام ، مما سهل على الأصولي والمجتهد استنباط الحكم الشرعي ، حيث روى الكليني (329هـ) عن الصادق الحديث عن أن عمار أصابته جناية فتمعك بالتراب ، فسأله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يا عمار : تمعكت كما تتمعك الدابة؟ فقلت له : كيف التيمم؟ فوضع يداه على الأرض ، ثم رفعهما فمسح وجهه ويديه فوق الكف قليلاً . را : الكافي ، للكليني ، ج3 ، ص62 ، بسنده عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، . . . عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) . الحديث .
  12.  را : الفيض الكاشاني ، الحق المبين ، (ت : 1390 هـ) الناشر : سازمان جاب دانشكاه ، (لا ـ ت) ، ج1 ، ص8 .
  13.  الطباطبائي ، القرآن في الإسلام ، م .س ، ص125 .
  14.  م .ع ، ص126 .
  15.  انظر : صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن ، م .س ، ص138 ـ 139 .
  16.  لقد اعتمد الطباطبائي مبدأ الترجيح والموازنة بين روايات أسباب النزول ، ورد الكثير مما روي عن الصحابة والتابعين في أسباب النزول ، ولكنه حينما كان يطمئن لرواية ، كان يعتبرها بالإشارة إلى طرق أخرى إن وجدت ، وهذا يدل ، كما يرى الأوسي ، على مدى اهتمامه بروايات أسباب النزول ، لاعتقاده بأنها قرائن توضح النص القرآني ، وهذا ما يحتاج إلى مزيد تأمل وتدبر لكونه يخالف منهج الطباطبائي في التعامل مع متون الروايات في ضوء السياق القرآني ، لأنه وحده الذي كان يورث الطباطبائي الاطمئنان في الروايات الخاصة بأسباب النزول . . .
  17.  الطباطبائي ، القرآن في الإسلام ، م .س ، ص126 .
  18.  يرى علماء التفسير ، أن ما أنزل ابتداءً غير مبني على سبب من سؤال أو حادثة ، كأكثر الآيات المشتملة على قصص الأمم الغابرة مع أنبيائها ، أو وصف بعض الوقائع الماضية ، أو الأخبار الغيبية ، أو تصوير قيام الساعة ، وهي في القرآن كثيرة أنزلها الله لهداية الخلق إلى الصراط المستقيم وجعلها مرتبطة بالسياق القرآني سابقة ولاحقة ، وهذا ما توقف عنده الطباطبائي ملياً ، فهي وإن لم تكن مبنية على سبب أو حادثة ، وإن كان منها ما بني على سبب كذي القرنين ، وأهل الكهف وغير ذلك ، إلاّ أن ما توقف عنده الطباطبائي ، هو أن ما لم يكن بسبب ارتباط بالسياق القرآني ، ويأتي في طليعة هذا السياق ما ذكره الطباطبائي عن المعارف العالية التي تجعل من كل آية على ارتباط وثيق معها ، سواء كانت بسبب أم غير سبب . . .
  19.  م .ع ، ج10 ، ص128 .
  20.  انظر : العطار ، داود ، موجز علوم القرآن ، م .س ، ص180 .
  21.  انظر : المجلسي ، بحار الأنوار ، م .س ، ج35 ، ص387 .
  22.  لقد تجرأ صبحي الصالح فيما زعمه من قول أن الإمام علي (عليه السلام) أقسم بأنه يعلم بأسباب النزول ، ولكن ذلك لا يعني أن يؤخذ كلامه بالمعنى الحرفي حتى ولو أقسم على هذا . . . وهذا إن كان صدر عنه ، فهو من المبالغة على طريقة العرب . . . ويختم الصالح كلامه بالقول : وإما أن الرواة قد تزيّدوا في نقل هذا عنهم وعزوه إليهم . . . فإن في العبارة نفسها ضرباً من التفاخر بالعلم يصعب علينا تصديق صدوره عنهم ، وهم الذين ضربت الأمثال في تواضعهم الجم وأدبهم الرفيع في الورع والإحجام عن الفتيا في الدين» . هذا كلامه ، را : مباحث في علوم القرآن ، م .س ، ص132 ـ 133 .
  23.  الزركشي ، بدر الدين ، البرهان في تفسير القرآن ، م .س ، ج1 ، ص29 .
  24.  السيوطي ، جلال الدين ، الإتقان في علوم القرآن ، م .س ، ج1 ، ص35 .
  25.  الطباطبائي ، القرآن في الإسلام ، م .س ، ص124 .
  26.  العطار ، داود ، موجز علوم القرآن ، م .س ، ص133 ـ 135 .
  27.  الطباطبائي ، الميزان ، م .س ، ج1 ، ص42 .
  28.  م .ع ، ج3 ، ص73 .
  29.  م .ع ، ص73 ـ 74 .
  30.  م .ع ، ج1 ، ص42 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى