مقالات

من الفطرة إلى الاختلاف!!

 قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾[1].

 ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ..﴾[2].

وقد جاء في التفسير، عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليهما السلام، أنّ الناس كانوا أمّةً واحدة على فطرة الله، فبعث الله النبيين[3].

يعرف في ضوء هذه النصوص أنّ الجماعة البشرية بدأت خلافتها على الأرض بوصفها أُمّةً واحدة، وأنشأت المجتمع الموحد مجتمع التوحيد بركائزه المتقدّمة، وكان الأساس الأولي لتلك الوحدة ولهذه الركائز الفطرة، لأنّ الركائز التي يقوم عليها مجتمع التوحيد، والتي تمثل أساس الخلافة على الأرض، كلّها ذات جذور في فطرة الإنسان.

 ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾[4].

فالإيمان بالله الواحد، ورفض كلّ ألوان الشرك والطاغوت، ووحدة الهدف والمصلحة والمسير، كلّها معالم الفطرة الإنسانية، وأيّ شرك وجبروت، وأيّ تناقض وتفرّق، هو انحراف عن الفطرة.

وهكذا شكّلت الفطرة في البداية أساساً لإقامة مجتمع التوحيد، وكان – الإنسان ممثلاً في الجماعة الإنسانية كلّها – يمارس خلافة الله على الأرض وفقاً لذلك، وكان خطّ الشهادة قائماً إلى جانب خطّ الخلافة ممثَّلاً في الأنبياء، وكان دور الأنبياء في تلك المرحلة ممارسة مهمّة الشهيد الربّاني، مهمّة الهادي والموجّه والرقيب، كما يفهم من النصّ القرآني الثاني، إذ اعتبر بعثه الأنبياء الذين يحكمون بين الناس في فترة تالية للمرحلة التي كان الناس فيها أُمّةً واحدة، ففي هذه المرحلة إذاً، كانت الخلافة والحكم للجماعة البشرية نفسها، وكان خطّ الشهادة للإشراف والتوجّه والتدخّل إذا تطلّب الأمر.

وبعد أن مرّت على البشرية فترة من الزمن، وهي تمارس خلافتها من خلال مجتمع موحّد، تحقّقت نبوءة الملائكة، وبدأ الاستقلال والتناقض في المصالح والتنافس على السيطرة والتملّك، وظهر الفساد وسفك الدماء؛ وذلك لأنّ التجربة الاجتماعية نفسها وممارسة العمل على الأرض نمّت خبرات الأفراد، ووسّعت إمكاناتهم فبرزت ألوان التفاوت بين مواهبهم وقابليّاتهم، ونجم عن هذا التفاوت اختلاف مواقعهم على الساحة الاجتماعية، وأتاح ذلك فرص الاستغلال لمن حظي بالموقع الأقوى، وانقسم المجتمع بسبب ذلك إلى أقوياء وضعفاء ومتوسّطين، وبالتالي إلى مستغلّين ومستضعفين، وفقدت الجماعة البشرية بذلك وحدتها الفطرية، وصدق قوله الله تعالى في آية تحمّل الإنسان للأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض، إذ قال : ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾[5].

وعلى هذا الأساس لم يعد – في المنطق الربّاني – للأقوياء المستغلّين موقع في الخلافة العامّة للجماعة البشرية؛ لأنّ هذه الخلافة أمانة كما تقدّم، ومن خان الأمانة لم يعد أميناً. وأمّا المستضعفون، فمن يواكب منهم الظلم ويسير في اتّجاهه ويخضع للاستغلال يعتبر في المفهوم القرآني ظالماً لنفسه، وبالتالي خائناً لأمانته، فلا يكون جديراً بالخلافة، ويظلّ في موقعه من الخلافة، أولئك المستضعفون الذين لم يظلموا أنفسهم، ولم يستسلموا للظلم، فهؤلاء هم الورثة الشرعيّون للجماعة البشرية في خلافتها، كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾[6].

ولكنّ المجتمع قد غرق في هذه اللحظة في ألوان الاستغلال، وسيطرت عليه علاقات اجتماعية تُجسّد هذه الألوان، ومشاعر نفسية تبرّر الانحراف عن الفطرة، وأساطير فكرية ووثنية تمزّق المجتمع شيعاً وأحزاباً، ولم يبقَ مستضعف غير ظالم لنفسه، إلّا عدد قليل مغلوب على أمره.

نهضة الإنسان: الإنسان والثورة والحرية عند أعلام الفكر الإسلامي الأصيل، جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة


[1]  سورة يونس، الآية 19.
[2]  سورة البقرة، الآية 213.
[3]  نصّ الحديث: روي عن أبي جعفرعليه السلام أنّه قال: “كانوا قبل نوح أمّة واحدة، على فطرة الله، لا مهتدين ولا ضلالا، فبعث الله النبيين”. الطبرسي، مجمع البيان، ج2، ص65.
[4]  سورة الروم، الآيات 30 – 32.
[5] سورة الأحزاب، الآية 72.
[6]  سورة القصص، الآية 5.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى