مقالات

لعدم الخلط بين مفهومي التربية والتنشئة الاجتماعية

وقع الخلط من قِبَل بعض الباحثين التربويّين بين مصطلحي التربية والتنشئة الاجتماعية، لذا من الضروريّ بيان الفرق بينهما، فمثلاً يُعرّف محمد سيف الدين فهمي التربية بأنّها: “العملية المقصودة أو غير المقصودة التي يصطنعها المجتمع لتنشئة الأجيال الجديدة فيه، بما يجعلهم على وعي بوظائفهم في المجتمع، وبدور كلٍّ منهم فيه”[1].

وهذا التعريف للتربية ناظر إلى البعد الاجتماعيّ للعملية التربوية، بمعنى أن يُصبح الطفل قادراً على التكيّف والتأقلم مع البيئة الاجتماعية العامّة التي يعيش فيها. وهذا المعنى أقرب إلى التنشئة الاجتماعية منه إلى التربية. لأنّ التنشئة الاجتماعية عبارة عن إكساب الطفل صفات خاصّة يستطيع من خلالها أن يكون عضواً نافعاً ومتوافقاً مع الهيئة الاجتماعية العامة التي يعيش فيها، فتكون له عقلية اجتماعية، ويتحوّل من كائن بيولوجيّ إلى كائن اجتماعيّ[2].

وبعبارة أخرى: التنشئة الاجتماعية عبارة عن جعل الطفل قادراً على التكيّف مع البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها من حيث العادات والتقاليد والسلوكات والاتّجاهات والقيم وغيرها.

وبهذا تتّضح عدّة فروقات بين التربية والتنشئة الاجتماعية، منها أهميّة التربية على التنشئة، حيث إنّ التنشئة ناظرة إلى البعد الاجتماعيّ من أبعاد هوية الطفل، فتكون جزءاً من العمليات التربوية التي تهدف إلى تكامل الطفل في مختلف جوانب شخصيّته، ومنها البعد الاجتماعيّ.

وثانياً: التنشئة الاجتماعية انعكاس لثقافة المجتمع، والتربية الإسلامية لا تقوم دائماً على جعل الطفل متكيّفاً مع البيئة التي يعيش فيها بمعنى إكسابه قيمها وأنماطها السلوكية، بل تختلف المسألة من مجتمع إلى آخر. فلو كان المجتمع إيمانياً يلتزم بقيم الإسلام وأنماطه السلوكية تكون التربية قائمة على التوافق والتطبيع الاجتماعيّ للطفل مع بيئته. أمّا لو كان الطفل يعيش في مجتمع غير إسلاميّ كالأسر المسلمة التي تعيش في الغرب، أو تعيش في مجتمع مسلم لا يلتزم بالقيم الإسلامية، فهنا لا يكون المطلوب جعل الطفل متطبّعاً بالقيم والأنماط السلوكية لذلك المجتمع، بل جعل الطفل قادراً على المواءمة بين المنظومة الإيمانية والقيمية التي ينتمي إليها وبين المجتمع الذي يعيش فيه، بمعنى أن لا يجعله إيمانه يشعر بالغربة عن المجتمع فينعزل ويعتكف وينزوي، وفي الوقت نفسه لا ينصهر في المجتمع.

فالتربية الإسلامية تنطلق من المذهب التربويّ الإسلاميّ الذي يُحدّد العمليات التربوية انطلاقاً من قاعدة أيّ مجتمع نُريد أن نبني، وأيّ مجتمع مطلوب إيجاده في واقع حياة الناس، لا على أساس ما هو المجتمع الموجود كواقع قائم.

التربية عند فلاسفة وعلماء التربية الغربيّين[3]
– يقول إيمانويل كانط: “… نقصد فعلاً بالتربية: الرّعاية (التغذية، التعهّد) والانضباط والتعليم المقترن بالتَّكوين… والمقصود بالرعاية: الاحتياطات التي يتّخذها الوالدان ليحولا بين أطفالهما وبين استعمال قواهم استعمالاً مضرّاً…(و) يحولا لانضباط دون أن ينصرف الإنسان عن غايته -وهي غاية الإنسانية – بفعل نوازعه الحيوانية (فالانضباط يعني: السعي إلى الحيلولة دون أن تؤدّي الحيوانية إلى فقدان الإنسانية “ترويض التوحّش) …”[4].

– ويُعرّف جون ستيوارت ميل التربية بأنّها: “كلّ ما نفعله نحن من أجل أنفسنا وكلّ ما يفعله الآخرون من أجلنا حين تكون الغاية تقريب أنفسنا من كمال طبيعتنا”[5].

– ويُعرّفها جون ديوي: “عملية صوغ وتكوين لفعالية الأفراد، ثم صبّ لها في قوالب معيّنة أي تحويلها إلى عمل اجتماعيّ مقبول لدى الجماعة”[6].

– وعرّفها رونيه أوبير بأنّها: “عملية تضمّ الأفعال والتأثيرات التي تستهدف نموّ الفرد من كلّ جهاته نمواً يسير به نحو كمال وظائفه من حيث التكيّف مع ما يُحيط به، ومن حيث ما تحتاجه هذه الوظائف من أنماط سلوك وقدرات”[7].

– وجاء في موسوعة لالاند الفلسفية: “Education: تربية، تهذيب، تأديب:… سلسلة عملية إجرائية يُدرّبُ فيها الراشدون (الأهل عموماً) الصغار من جنسهم، ويشجعون لديهم نموّ بعض النزعات وبعض العادات”[8].

– ويعرّف جود Good التربية في معجمه التربويّ بتعريفات عدّة، منها: “مجموعة العمليات التي من خلالها يقوم الفرد بتنمية قدراته واتجاهاته وصور أخرى من السلوك ذات القيمة الإيجابية في المجتمع الذي يحيا فيه”[9].

وهذا التعريف هو أقرب للتربية الذاتية المتعلّقة بالنفس دون الآخر.

– وعرّفتها مارغريت ميد بأنّها: “العملية الثقافية والطريقة التي يُصبح بها الوليد الإنساني الجديد عضواً كاملاً في مجتمع إنساني معيّن”[10].

– وعرّفت اليونسكو -في مؤتمرها الـ18 الذي عقد في باريس عام 1974م- التربية بأنّها: “مجموع عملية الحياة الاجتماعية التي عن طريقها يتعلّم الأفراد والجماعات داخل مجتمعاتهم الوطنية والدولية لصالحها وأن ينمّوا وبوعي منهم كافّة قدراتهم الشخصية واتّجاهاتهم واستعداداتهم ومعارفهم. وهذه العملية لا تقتصر على أنشطة بعينها…”[11].

المنهج الجديد في تربية الطفل، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


[1] فهمي، محمد سيف الدين، محاضرات في أصول التربية، ص17.
[2] يراجع: وطفة، علي أسعد، والشهاب، علي جاسم، علم الاجتماع المدرسي بنيوية الظاهرة ووظيفتها الاجتماعية، ص235.
[3] انطلاقاً من المفهوم الذي حدّدناه للتربية والمناقشات التي ذكرناها حول بعض التعريفات سابقاً، يمكن للأستاذ والطلاب مناقشة هذه التعريفات في الحصة الدراسية.
[4] كانط، إيمانويل، ثلاثة نصوص، ص11 وما بعد.
[5] الرشدان، عبد الله، علم اجتماع التربية، ص25.
[6] يراجع: الزهيري، شريف عبد العزيز، بناء مستقبل الأمة، ص12.
[7] أوبير، رونيه، التربية العامة، ترجمة عبد الله عبد الدايم، ص27.
[8] لالاند، أندريه، موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، ج1، ص322.
[9] نقلاً عن: أصول التربية، م.س، ص9.
[10] نقلاً عن: النجيحي، محمد لبيب، التربية وأصولها الثقافية والاجتماعية، ص45.
[11] يراجع: www.dfc.edunet.tn/Aoab

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى