مقالات

القرآن الكريم في مواجهة التلوّث الفكريّ

الآن على سبيل المثال، لنعرف كيف كان الأئمّة عليهم السلام يتعاملون مع القرآن الكريم كجهاز للتصفية؟ وهذا ما نستشفّه من بعض الشواهد التاريخيّة، فقد ظهرت في زمن “المأمون” – مثلًا – نهضة علميّة، وكان يعقد مجالس كثيرة للبحث والمناظرة، يشعر من ورائها باللذّة والبهجة، وذلك لأنّه كان عالمًا ومن أهل المطالعة. ويُنقل عنه أنّه منح الحريّة للأديان والمذاهب كافّة من أجل ممارسة شعائرها ونشاطاتها. وكانت مناظرات الإمام الرضا عليه السلام مع أصحاب الملل والنحل قد اتّخذت طابعها من خلال تلك المجالس، حيث كان المأمون مكثرًا من عقد تلك المجالس، ولا سيّما فيما يخصّ المسلمين عامّة وأتباع أهل البيت. وقد ذكر القاضي “بهلول بهجت أفندي” التركي في كتابه القيّم للغاية “تشريح ومحاكمة”[1]، والّذي تُرجِم إلى الفارسيّة المناظرات الّتي كانت تجري بين “المأمون” وعلماء الجمهور حول الخلافة، وكان بعض الخلفاء يمهّدون لمناظرات الأئمّة مع غيرهم. وكان “هشام بن الحكم” يشترك في تلك المناظرات أحيانًا، ومن هذه المناظرات مناظرة جرت بين “الإمام الجواد”، وهو لم يزل طفلاً، وبين “يحيى بن أكثم”. … فقال له “يحيى بن أكثم”: “ما تقول يا ابن رسول الله في الخبر الّذي روي: أنّه نزل جبريئل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا “محمّد إنّ الله عزّ وجلّ يقرئك السلام ويقول لك سل أبا بكر، فهل عنّي راض فإنّي عنه راض؟””.

فقال أبو جعفر عليه السلام: “لست بمنكر فضل أبي بكر، ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الّذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجّة الوداع: “قد كثرت عليّ الكْذّابة وستكثر فمن كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله عزّ وجلّ وسنتي، فما وافق كتاب الله وسنّتي فخذوا به، وما خالف فاطرحوه”. وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله[2]. قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۥۖ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِيدِ﴾[3]. فالله عزّ وجلّ أخفى عليه رضاء أبي بكر من سخطه، حتى سأل عن مكنون سرّه؟ هذا مستحيل في العقول”.

قال “يحيى”: “وقد رُوِيَ أيضًا أنّ أبا بكر وعمر سيّدا كهول الجنّة فما تقول فيه؟”، فقال عليه السلام: “وهذا الخبر محال أيضًا لأنّ أهل الجنّة كلّهم يكونون شبابًا ولا يكون فيهم كهل، وهذا الخبر وضعه بنو أميّة لمضادّة الخبر الذي قال رسول الله في الحسن والحسين بأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة[4]”.

إذًا، القرآن الكريم مقياس عظيم للتقويم، وجهاز تصفية لكلّ الملوّثات ظهرت على مرّ التاريخ، وهناك أشياء تبعث على سرورنا واغتباطنا. ومن هذه الأشياء مثلًا: لا أحد يستطيع أن يقول: إنّ دينكم – مهما كان في بدايته – فهو كبقية الأديان، حيث مرّت أحداث في التاريخ أدّت إلى تشويه معالمه وتحريفه، كالّذي حصل للدّين الزرادشتي حيث لا يمكن الاطمئنان أبدًا إلى الكتاب الأصلي لزرادشت، فماذا كان كتاب زرادشت الأصليّ؟ وفي أيّ سنة كان يعيش زرادشت؟ وهكذا أثيرت كثير من علامات الشكّ والترديد حول حقيقته، وإلى بضع سنين متقدّمة، كان الشكّ يحوم حول حقيقة وجوده، وما زال هناك قدر من الشكّ حوله، فهل هو شخصيّة أسطوريّة كـ”رستم” و”اسنفنديار”، أو شخصيّة واقعيّة؟ ولو فرضنا أنّه كان ذا تعاليم صحيحة، فإنّ من تعاليمه مثلًا: الكلام الصالح، العمل الصالح، والعقيدة الصالحة، وهذه ليست تعاليم حقًا؛ لأنّ أقلّ ما يقال عنها أنّها ذكرت مجملةً، وبشكل عام، ولا تحمل في طيّاتها أيّ معنى ومفهوم، وذلك أنّ كلّ إنسان يعدّ كلامه صالحًا، وعمله صالحًا، وعقيدته صالحة.
انظروا إلى التوجّهات الموجودة في عالمنا المعاصر، فالرأسماليّة – مثلًا – ترى أنّ أقوالها وأفعالها وأفكارها صالحة، في حين ترى الشيوعيّة أنّ الصالح ما تعتقده هي فقط، وهكذا بقيّة المبادىء والأفكار في العالم. فالمنهج الّذي يُعدّ منهجًا حقيقيًّا في الحياة هو المنهج الّذي لا يكتفي بقوله: “الكلام الصالح، والعمل الصالح، والعقيدة الصالحة”، بل عليه حينما يقول: الكلام الصالح أن يوضّح أبعاد ذلك الكلام ومواصفاته، وكذلك الأمر بالنسبة إلى العمل الصالح، والعقيدة الصالحة. ولو استقرأنا المسيحيّة واليهوديّة لوجدناهما على نفس الشاكلة، فالدّين الوحيد الّذي أثبت وجوده وبرهن على مبدئيته من دون أن تنال منه يد التلويث والتحريف شيئًا هو الدين الإسلاميّ. وقد ذكرتُ سرّ ذلك سلفًا علمًا أنّي لا أقول أنّه لم يظهر تيّار ملوّث في العالم الإسلامي. كلّا، ولكن كلّما ظهر هناك تيّار منحرف فإنّ وسائل التطهير الموجودة في الدّين تعمل على تقويمه من الانحراف، وتصفيته من التلوّث، وأوّلها: القرآن الكريم نفسه، وهو المعيار الأعلى في هذه العمليّة، ثمّ يأتي بعده ما تواتر من أحاديث عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وتمّ التسليم بصحتها. وبالنسبة إلى اتّباع أهل البيت فما تواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام، وفرغ من قطعيّتها، أقول: ما تواتر وما صحّ؛ لأن هناك بعض الأحاديث صحيحة، ومتواترة من بين هذا الركام الهائل من الأحاديث المشكوكة والمريبة، وتعدّ تلك الأحاديث الصحيحة المتواترة حجّة بالنسبة إلينا، ويمكن أن تكون معيارًا يعتمد عليه في التشخيص، وهناك شيء آخر – لا مناص من ذكره – وهو أنّ القرآن الكريم عدّ العقل حجّة منذ البداية، ولم يكُ موقف الإسلام من العقل سلبيًّا في يوم من الأيام، في حين أنّ هناك من المنحرفين المحسوسين على الإسلام من يرى خلاف ذلك، ولهم تعاليمهم الخاصّة بهم، وهؤلاء لا يقيمون وزنًا.

ومن هؤلاء: الوضيع “حسين علي البهاء” الّذي تنسب إليه البهائيّة، مع العلم أنّه من الخطأ أن يعدّ الإنسان هذا الوضيع المنحرف في عداد رؤساء المذاهب والأديان. فمن أقواله مثلًا: أغمض عينيك لترى جمالي، واسدد أذنيك لتسمع كلامي!! يا للعجب العجاب! أيّ جمال هذا الّذي لا يراه الإنسان إلّا أن يُغمض عينيه؟! وأيّ كلام هذا الذي لا يسمعه الإنسان إلّا أن يصمّ أذنيه؟!

أمّا قرآننا العظيم فإنه يقول: افتح عينيك لترى جمالي، وافتح أذنيك لتسمع كلامي، وأطلق عقلك لتدرك حقائقي. وكم يذمُّ أولئك الّذين لا يستعملون عيونهم وآذانهم وعقولهم، ويتظاهرون بالتسليم والتعبّد الأحمق! وما أروع الأدب القرآني عندما يخاطب المسلمين بقوله: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ” أو “يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ”! ولم يقل: “يا أغنام الله!” مثلًا، ليقصد على أنّهم أغنام وما عليهم إلّا الانقياد والتسليم.

ومن مميّزات هذا الكتاب العزيز أنّه يفسّر التاريخ في ضوء المنطق العقليّ، وعندما يذكر الصلاة، فإنّه يذكر معها فلسفتها، وحينما يتحدّث عن وجود الله، فإنّه يثبته بالمنطق الاستدلاليّ والعقليّ، وعندما يتعرّض للحديث عن بعض القضايا والأحداث، أو عن بعض الناس فإنّ نبرته تقطر ذوقًا وأدبًا. قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ…﴾[5] ويندر فيه أنّه يستعمل كلمات نابية، أو كلمات تشمّ منها رائحة الشتم والسباب – لو صحّ التعبير – ولو استعمل ذلك فإنّه يستعمله بحقّ، وفي بعض المواطن ومن هذه المواطن مثلًا: عندما يتمرّد الإنسان على عقله، هذه الحجة الناطقة – على حدّ تعبير الإمام الكاظم عليه السلام، ولا يستعمله في تعامله مع الحياة، فيقول: ﴿إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلۡبُكۡمُ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡقِلُونَ﴾[6].

وأشار في بداية الكلام إلى مسألة رؤية الله عند الأشاعرة، وكيف تمّ تفسير تلك الرواية بطريقة ملوّثة، وما أروع القرآن هنا! وما أعظمه جهازًا للتعقيم! وما أسرعه في إسعافنا، حين يقول: ﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ…﴾[7].

فالقرآن وغيره من المصادر السليمة المعتدّ بها هي المقاييس الّتي وضعها الإسلام تحت تصرّفنا لنتمكّن من الامتحان والاختبار، وما علينا إلّا أن تستقصي ما ظهر في التاريخ الإسلاميّ من تيّارات، وندقق فيها مليًّا.

أنا حاولتُ جاهدًا – في هذه الليلة – أن أؤدّي حقّ البحث في حديثي عن أجهزة التّصفية والتّعقيم الّتي يزجر بها إسلامنا العظيم، ولا أدري إلى أيّ مدى حالفني التوفيق والنجاح في ذلك، وأرتئي أن تتعرّفوا إلى هذه الحقيقة وهي: أنّ الإسلام لم يسلم من ظهور تيّارات ملوّثة كانت وما زالت تفعل فعلتها، ولو لم نتعرّف إلى هذه التيّارات، فما هي فائدة جهاز التصفية؟

الإسلام ومتطلّبات العَصر (الشهيد مرتضى مطهّري)، مركز نون للتأليف والترجمة


[1]  وترجمته في العربية “التفصيل والمحاكمة”.
[2]  راجع: العلامة المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج 50، ص 80.
[3]  سورة ق، الآية 16.
[4]  البحراني، السيد هاشم بن سليمان‏، حلية الأبرار في أحوال محمّد وآله الأطهار عليهم السلام،‏ قم، مؤسسة المعارف الإسلامية، 1411 هـ، ط 1، ج 4، ص 623.
[5]  سورة الأعراف، الآية 179.
[6]  سورة الأنفال، الآية 22.
[7]  سورة الأنعام، الآية 103.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى