مقالات

طيب المخالقة في سيرة أهل البيت (عليهم السلام)

ورد في دعاء “مكارم الأخلاق” للإمام زين العابدين قوله: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَحَلِّنِي بِحِلْيَةِ الصَّالِحِينَ..” إلى أن يقول: “وَطِيبِ الْمُخَالَقَةِ”.

المخالقة: مفاعلة من الخُلق بضمّتين، يعني: المعاشرة. يُقال: خالَقَ القوم أي عاشرهم بخلق حَسَن.
.
فتكون المخالقة هنا بمعنى المعاشرة مع الناس.

والطيب: هو الحسن الذاتي، ويُطلق على ما هو طيّبٌ واقعاً وذاتاً، لذلك يطلق على العطور بأنّها طيب، ولا يقال للشيء المعطّر بأنّها طيب، بل يقال: إنّه مطيّب. وفيها نحن فيه المعاشرة مع الناس قد تكون بسجيّة طيّبة، وقد تكون بسجيّة غير طيّبة.
وفي هذا الدّعاء الشريف عبّر الإمام (عليه السلام) بطيب المخالقة، ولم يقل حسن المخالقة، إشارة إلى طلب السجيّة الطيّبة الذاتيّة الواقعيّة، والعلاقة الودّية الحقيقيّة، فهي التي تكون حلية الصالحين، وزينة المتّقين.

دون العلاقة الحسنة الظاهريّة، التي قد تكون مراوغة وحيلة إذا لم تطابق قلب الإنسان وباطنه..

فإنّك ترى أنّه قد يعاشر أحدٌ مع شخصٍ، فيُحسن في معاشرته ويضاحكه ويمازحه ويلاطفه بلسانه، مراوغةً مصانعةً، لا حقيقة، وهذه مخالقة غير طيّبة، بل غير حسنة كما هو المنقول عن شريح القاضي الذي ضُرب به المثل في مراوغاته ومصانعاته فقيل: (شريح أدهى من الثعلب). في قضيّةٍ ينقلها الشعبي، وجاء ذكره في كتاب الدميري([1]).

فالطيب من المخالقة هي التي تكون حقيقيّة واقعيّة، ويستمرّ عليها حتّى تصير سجيّة ذاتيّة، وهي المطلوبة في الدعاء الشريف.

والاُسوة والقدوة في المخالقة والمعاشرة الطيّبة مع الناس هم أهل البيت (عليهم السلام) الذين طابت معاشراتهم مع الناس في جميع أدوار حياتهم، في حكومتهم وغير حكومتهم، مع أصحابهم وغير أصحابهم، مع أوليائهم وأعدائهم، حتّى مع خدّامهم.
كانت معاشراتهم معهم طيّبة حقيقيّة، وصافية صفو الماء الزلال، وصادقةً صدق الحقّ الأبلج، كما تلاحظ ذلك بوضوح في سيرتهم الغرّاء، وحياتهم المباركة.

ومن أمثلة ذلك:
1 ـ أمير المؤمنين (عليه السلام)… ذهب إلى السوق، واشترى ثوبين، أحدهما بدرهمين، والآخر بثلاث دراهم.
فأعطى الثوب ذا الثلاث دراهم لخادمه قنبر المعاشر معه، ولبس هو (عليه السلام) الثوب ذا الدرهمين.

2 ـ الإمام الحسين (عليه السلام).. وهب بستانه لغلامه صافي، حتّى أنّه استأذن منه لدخوله هو إلى البستان.
وهبه له لكونه غلاماً شكوراً، ومُنفقاً من طعامه على كلب البُستان، فأحسن الإمام في عشرته.

3 ـ الإمام الصادق (عليه السلام).. أبطأ عليه خادمه ونام ولم ينجز ما طلبه الإمام منه، فسار الإمام (عليه السلام) في طلبه فوجده نائماً، فجلس عند رأس الخادم، يروّح له بيده حتّى لا يصيبه الحرّ.
وفي برهةٍ من الزمان كان الإمام الصادق (عليه السلام) مبعّداً إلى الحيرة([2]) من قبل المنصور الدوانيقي الذي عادى الإمام (عليه السلام)، محاربةً لعلمه الإلهي، ومعارضةً لحقّه الشرعي، وإغلاقاً لباب أهل البيت (عليهم السلام) الذين كانوا الأصحاب الحقيقيّين لخلافة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).

وحين وجود الإمام الصادق (عليه السلام) في الحيرة كان معه خادمه المعلّى بن خنيس. وفي ليلة من تلك الليالي التي كانت من ليالي الصيف، أمر الإمام (عليه السلام) أن يُفرش له
فراشه في الصحراء، ليكون نومه وعبادته هناك. وأمرَ أن يُؤتى بسراجٍ ومركبٍ له وللمعلّى بن خنيس. فجيء بسراجٍ وبغلةٍ وحمار..  فركب هو (عليه السلام) الحمار، وأمر المعلّى أن يركب البغل الذي هو أحسن من الحمار، فذهبوا إلى الصحراء، ثمّ ذهبوا من هناك إلى زيارة مرقد أمير المؤمنين (عليه السلام)، فتلاحظ طيب عشرته مع خادمه حيث فضّله على نفسه في المركب إيثاراً.

4 ـ الإمام الرضا (عليه السلام).. كان يجلس على مائدة الطعام مع غلمانه وخَدَمه، وهو سلطان الدِّين والدّنيا والآخرة.
حتّى في حال مسموميّته وتألّمه لم يترك ذلك، بل كان يعاشرهم بأطيب المخالقة، وأفضل معاشرة. وهكذا سائر الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، الذين هم أشرف خلق الله تعالى، ترى أنّهم كانوا يحسنون المعاشرة الطيّبة مع جميع طبقات الخلق، ويأمرون بحسن المعاشرة، وطلاقة الوجه مع المعاشرين.

ففي حديث الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا بني عبد المطّلب، إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فألقوهم بطلاقة الوجه، وحُسن البُشر([3]).

وفي حديثٍ آخر: صنائع المعروف، وحُسن البُشر، يكسبان المحبّة، ويُدخلان الجنّة.. والبخل وعبوس الوجه يبعّدان من الله، ويُدخلان النار([4]).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً أنّه قال: عليكم بالصلاة في المساجد، وحسن الجوار للناس، وإقامة الشهادة، وحضور الجنائز، إنّه لابدّ لكم من الناس…([5]).

وفي حديث أبي الربيع الشامي قال: دخلتُ على أبي عبد الله (عليه السلام)، والبيت غاصّ بأهله، فيه الخراساني، والشامي، ومن أهل الآفاق.

فلم أجد موضعاً أقعد فيه، فجلس أبو عبد الله (عليه السلام) وكان متّكئاً ثمّ قال: يا شيعة آل محمّد، إنّه ليس منّا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يُحسن صحبة من صَحِبَه، ومخالقة مَن خالقَه، ومرافقة مَن رافقَهُ، ومجاورة مَن جاورَهُ، وممالحة مَن مالحهُ.
يا شيعة آل محمّد، اتّقوا الله ما استطعتم، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله([6]).

فطيب المخالقة، وحسن المعاشرة مع الناس، من الصفات الكريمة، والخصال المباركة التي تجعلنا من شيعة آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.

إذ هي من حلية الصالحين، وزينة الأتقياء.. والمتّقون الصالحون هم شيعة أهل البيت (عليهم السلام).

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)،السيد علي الحسيني الصدر


([1]) حياة الحيوان / ج 1 / ص 173.
([2]) الحيرة: كانت بلدة على بُعد 5 كيلومترات من جنوب الكوفة كما في المنجد / ص 170.
([3])اُصول الكافي / ج 2 / ص 84.
([4])اُصول الكافي / ج 2 / ص 85.
([5])اُصول الكافي / ج 2 / ص 464.
([6]) اُصول الكافي / ج 2 / ص 465.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى