مقالات

أدعية الصحيفة السجّادية

بعد واقعة الطف المحزنة وتملُّك بني أُميّة ناصية أمر الاَمَّة الاسلامية ـ فأوغلوا في الاستبداد، وولغوا في الدماء، واستهتروا

في تعاليم الدين ـ بقي الامام زين العابدين، وسيِّد الساجدين عليه السلام جليس داره محزوناً ثاكلاً، وجليس بيته لا يقربه أحد، ولا يستطيع أن يفضي إلى الناس بما يجب عليهم، وما ينبغي لهم.

فاضطرّ أن يتّخذ من أسلوب الدعاء ـ الذي قلنا إنّه أحد الطرق التعليمية لتهذيب النفوس ـ ذريعة لنشر تعاليم القرآن، وآداب الاسلام، وطريقة آل البيت، ولتلقين الناس روحية الدين والزهد، وما يجب من تهذيب النفوس والاَخلاق.

وهذه طريقة مبتكرة له في التلقين، ولا تحوم حولها شبهة المطاردين له، ولا تقوم بها عليه الحجّة لهم، فلذلك أكثر من هذه الاَدعية البليغة.

وقد جمعت بعضها «الصحيفة السجادية» التي سميت بـ «زبور آل محمّد»، وجاءت في اسلوبها ومراميها في أعلى أساليب الاَدب العربي، وفي أسمى مرامي الدين الحنيف، وأدق اسرار التوحيد والنبوّة، وأصح طريقة لتعليم الاَخلاق المحمدية، والآداب الاسلامية.

وكانت في مختلف الموضوعات التربوية الدينية، فهي تعليم للدين والاَخلاق في أُسلوب الدعاء، أو دعاء في اسلوب تعليم للدين والاَخلاق، وهي بحقّ ـ بعد القرآن، ونهج البلاغة ـ من أعلى أساليب البيان العربي، وأرقى المناهل الفلسفية في الاِلهيات

والاَخلاقيات:

فمنها ما يعلّمك كيف تمجِّد الله وتقدّسه، وتحمده وتشكره، وتتوب إليه .

ومنها ما يعلِّمك كيف تناجيه، وتخلو به بسرّك، وتنقطع إليه.

ومنها ما يبسط لك معنى الصلاة على نبيّه ورسله وصفوته من خلقه، وكيفيتها .

ومنها ما يفهمك ما ينبغي أن تبرّ به والديك .

ومنها ما يشرح لك حقوق الوالد على ولده، أو حقوق الولد على والده، أو حقوق الجيران، أو حقوق الاَرحام، أو حقوق المسلمين عامّة، أو حقوق الفقراء على الاَغنياء وبالعكس .

ومنها [ما] ينبّهك على ما يجب ازاء الديون للناس عليك، وما ينبغي أن تعمله في الشؤون الاقتصادية والمالية، وما ينبغي أن تعامل به أقرانك وأصدقاءك وكافّة الناس، ومن تستعملهم في مصالحك .

ومنها ما يجمع لك بين جميع مكارم الاَخلاق، ويصلح أن يكون منهاجاً كاملاً لعلم الاَخلاق .

ومنها ما يعلّمك كيف تصبر على المكاره والحوادث، وكيف تلاقي حالات المرض والصحّة .

ومنها ما يشرح لك واجبات الجيوش الاسلامية، وواجبات الناس معهم، إلى غير ذلك ممّا تقتضيه الاَخلاق المحمَّدية، والشريعة الاِلهية، وكلّ ذلك باسلوب الدعاء وحده.

والظاهرة التي تطغو على أدعية الامام عدّة أُمور:

الاَول: التعريف بالله تعالى وعظمته وقدرته، وبيان توحيده وتنزيهه بأدق التعبيرات العلمية، وذلك يتكرّر في كلّ دعاء بمختلف الاَساليب، مثل ما تقرأ في الدعاء الاَوّل:

«الحمدُ للهِ الاَوَّلِ بلا أوَّلٍ كانَ قبلَهُ، والآخِرُ بلا آخِرٍ يكونُ بعدهُ، الّذي قَصُرتْ عنْ رؤيِتِه أبصارُ الناظِرينَ، وعَجَزَتْ عنْ نعْتِهِ أوهامُ الواصِفينَ. ابتدَعَ بقدرتِهِ الخلقَ ابتداعاً، واخترعَهُمْ على مشيئتِهِ اختِراعاً» .

فتقرأ دقيق معنى الاول والآخر، وتنزُّه الله تعالى عن أن يحيط به بصر أو وهم، ودقيق معنى الخلق والتكوّين.

ثمّ تقرأ اسلوباً آخر في بيان قدرته تعالى وتدبيره في الدعاء:

«الحمدُ للهِ الَّذي خَلقَ الليلَ والنهارَ بقوَّتِهِ، وميَّز بينهَما بقدرتِهِ، وجعَلَ لكلٍّ منهُما حدّاً محدوداً، يُولجُ كلَّ واحدٍ منهما فِي صاحِبه،

ويولجُ صاحبَهُ فيهِ، بتقديرٍ منهُ للعبادِ فيما يَغذوهُمْ بِهِ، ويُنشئُهمْ عليهِ، فخلقَ لهمْ الليلَ ليسكُنوا فيهِ من حركاتِ التعبِ ونهضاتِ النصبِ، وجعلَهُ لباساً ليلبسُوا مِنْ راحَتِهِ ومقامِهِ، فيكونُ ذلكَ لهُمْ جمَاماً وقوَّةً؛ ولِينالُوا بهٍ لذَةً وشهوةً».

إلى آخر ما يذكر من فوائد خلق النهار والليل، وما ينبغي أن يشكره الانسان من هذه النعم.

وتقرأ اسلوباً آخر في بيان أنّ جميع الاَمور بيده تعالى في الدعاء ٧:

«يَا مَنْ تُحَلُّ بهِ عُقدُ المكارِهِ، وَيا منْ يُفثأُ بهِ حدُّ الشدائِدِ، وَيا مَنْ يُلتمَسُ منْهُ المخَرجُ إلى روح الفرَجِ، ذلَّتْ لقدرتِكَ الصعابُ، وتسبَّبَتْ بلطفِكَ الاَسبابُ، وجرَى بقُدرَتِكَ القضاءُ، ومضَتْ على إرادَتِكَ الاَشياءُ، فهي بمشيئَتِكَ دونَ قولِكَ مؤتمرةٌ، وبإرادتِكَ دونَ نهيكَ منزجرةٌ».

الثاني: بيان فضل الله تعالى على العبد، وعجز العبد عن أداء حقّه مهما بالغ في الطاعة والعبادة، والانقطاع إليه تعالى، كما تقرأ في الدعاء ٣٧:

«اللّهمَّ إنّ أحداً لا يبلُغُ مِنْ شكرِكَ غايةً إلاّ حصَل عليهِ من إحسانِكَ ما يُلزِمُهُ شُكراً، ولا يبلُغُ مبلَغاً من طاعَتِكَ وإنْ اجتهَدَ إلاّ كانَ مقصِّراً دونَ استحقاقِكَ بفضِلكَ، فأشْكَرُ عبادِكَ عاجزٌ عن شكرِكَ، وأعبدُهُمْ مقصِّرٌ عنْ طاعَتِكَ» .

وبسبب عظم نِعم الله تعالى على العبد التي لا تتناهى يعجز عن شكره، فكيف إذا كان يعصيه مجترئاً، فمهما صنع بعدئذ لا يستطيع أن يكفِّر عن معصية واحدة، وهذا ما تصوّره الفقرات الآتية من الدعاء ١٦:

«يَا إلهي لَوْ بكيْتُ إليكَ حتّى تسقُطَ أشفارُ عينَيّ، وانتحبْتُ حتّى ينقطعَ صوتِي، وقمْتُ لكَ حتّى تتنشّرَ قدَمايَ، وركعتُ لكَ حتّى ينخلعَ صُلبي، وسجدتُ لكَ حتّى تتفقّأَ حدقتايَ، وأكلتُ ترابَ الاَرضِ طولَ عمرِي، وشربتُ ماءَ الرمادِ آخرَ دهرِي، وذكرتُكَ في خلالِ ذلكَ حتّى يكلَّ لساني، ثمّ لمْ أرفعْ طرفِي إلى آفاقِ السماءِ استحياءً منكَ، ما استوجبتُ بذلكَ محوَ سيِّئةٍ واحدةٍ منْ سيّئاتي»

الثالث: التعريف بالثواب والعقاب، والجنة والنار، وأنّ ثواب الله تعالى كلّه تفضُّل، وأنّ العبد يستحق العقاب منه بأدنى معصية يجترئ بها، والحجّة عليه فيها لله تعالى.

وجميع الاَدعية السّجادية تلهج بهذه النغمة المؤثّرة؛ للايحاء إلى النفس الخوف من عقابه تعالى، والرجاء في ثوابه، وكلها شواهد على ذلك بأساليبها البليغة المختلفة التي تبعث في قلب المتدبّر الرعب والفزع من الاقدام علي المعصية ، مثل ما تقرأ في

الدعاء ٤٦ .

«حجّتكَ قائمةٌ لا تُدْحضُ، وسلطانكَ ثابتٌ لا يزولُ، فالويلُ الدائمُ لمنْ جنحَ عنكَ، والخيبةُ الخاذلةُ لمنْ خابَ منكَ، والشقاءُ الاَشقى لمنْ اغترَّ بكَ. ما أكثرَ تصرّفَهُ في عذابِكَ، وما أطولَ تردُّدَه في عقابِكَ، وما أبعدَ غايتَه من الفرج، وما أقنطَهُ من سهولَةِ المخرج؛ عدلاً من قضائِكَ لا تجوز فيهِ، وإنصافاً منْ حكمكَ لا تحيفُ عليهِ، فقد ظاهرتَ الحججَ، وأبليت الاَعذارَ..» .

ومثل ما تقرأ في الدعاء ٣١:

«اللّهمَّ فارحمْ وحدتِي بينَ يديكَ، ووجيبَ قلبي منْ خشيِتكَ، واضطرابَ أركاني من هيبتكَ؛ فقدْ أقامتْني ـ يا ربِّ ـ ذنوبي مقامَ الخِزي بفنائِكَ، فإنْ سكتُّ لمْ ينطقْ عنّي أحدٌ، وإن شفعتُ فلستُ بأهلِ الشفاعةِ» .

ومثل ما تقرأ في الدعاء ٣٩ :

«فإنَّكَ إِنْ تكافني بالحقِّ تهلكني، وإلاّ تغَمَّدْني برحمتكَ توبقْني… وأستحمِلك منْ ذنوبي ما قدْ بهظَني حملُهُ، واستعينُ بكَ على ما قدْ فدحني ثقلُه، فصلِّ على محمِّدٍ وآلهِ، وهبْ لِنفسِي على ظلمِها نفسي، ووَكِّلْ رحمتكَ باحتمالِ إصري…» .

الرابع: سوق الداعي بهذه الاَدعية الى الترفّع عن مساوئ الاَفعال وخسائس الصفات؛ لتنقية ضميره، وتطهير قلبه، مثل ما تقرأ في الدعاء ٢٠:

«اللّهمَّ وفِّرْ بلطفك نيّتي، وَصَحِّحْ بما عندكَ يقيني، واستصلِحْ بقدرتكَ ما فسدَ منّي…

«اللّهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّد ومتِّعني بهدىً صالحٍ لا استبدلُ به، وطريقةِ حقٍّ لا أزيغُ عنها، ونيّةِ رشدٍ لا أشكُّ فيها.

اللّهمَّ لا تدعْ خصلةً تُعابُ منّي إلاّ أصلحتَها، ولا عائبةً أؤنَّبُ بها إِلاّ حسَّنتَها، ولا أكرومةً فيَّ ناقصةً إلاّ أتممتَها» .

الخامس: الايحاء إلى الداعي بلزوم الترفُّع عن الناس وعدم التذلّل لهم، وألاّ يضع حاجته عند أحد غير الله، وأنّ الطمع بما في أيدي الناس من أخسِّ ما يتّصف به الاِنسان، مثل ما تقرأ في الدعاء ٢٠:

«ولا تفتنِّي بالاستعانةِ بغيركَ إذا اضطررتُ، ولا بالخشوع لسؤالِ غيركَ إذا افتقرتُ، ولا بالتضرُّع إلى منْ دونكَ إذا رهبتُ، فأستحقَّ بذلكَ خذلانَكَ ومنعَكَ واعراضَكَ» .

ومثل ما تقرأ في الدعاء ٢٨:

«اللّهمَّ إنّي أخلصتُ بانقطاعي إليكَ وصرفتُ وجهي عمَّنْ يحتاجُ إلى رفدكَ، وقلبتُ مسألتي عمّنْ لمْ يستغن عن فضلكَ، ورأيتُ أنّ طلبَ المحتاجِ إلى المحتاجِ سفةٌ من رأيهِ، وضلَّةٌ من عقلِهِ» .

ومثل ما تقرأ في الدعاء ١٣:

«فَمنْ حاوَلَ سدّ خلّتِهِ من عندِكَ، ورامَ صرفَ الفقرَ عَنْ نفسِهِ بكَ، فقدْ طلبَ حاجَتَه في مظانِّها، وأتى طلبتَهُ من وجِهها. ومنْ توجَّهَ بحاجتِهِ إلى أحدٍ منْ خلقِكَ، أو جعلَهُ سببَ نُجحِها دونَك، فقدْ تعرَّضَ للحرمانِ، واستحقَّ منكَ فوتَ الاحسانِ» .

السادس: تعليم الناس وجوب مراعاة حقوق الآخرين، ومعاونتهم، والشفقة والرأفة من بعضهم لبعض، والايثار فيما بينهم، تحقيقاً لمعنى الاَخوّة الاسلامية، مثل ما تقرأ في الدعاء ٣٨:

«اللّهمَّ إنّي أعتذرُ إليكَ منْ مظلومٍ ظُلِمَ بحضرتي فَلمْ أنصرْهُ، ومِنْ معروفٍ أُسديَ إليَّ فلمْ أشكْرهُ، ومِنْ مسيءٍ اعتذرَ إليَّ فلمْ أعذرْهُ، ومِنْ ذِي فاقةٍ سألني فلمْ أؤثرْهُ، ومِنْ حقِّ ذي حقٍّ لزمني لمؤمنٍ فلمْ أوفِّرْهُ، ومِنْ عيب مؤمنٍ ظهرَ لي فلمْ أستْرهُ..»

إِنّ هذا الاعتذار من أبدع ما ينبِّه النفس إلى ما ينبغي عمله من هذه الاَخلاق الاِلهية العالية.

وفي الدعاء ٣٩ ما يزيد على ذلك؛ فيعلِّمك كيف يلزمك أن تعفو عمَّن أساء إليك، ويحذِّرك من الانتقام منه، ويسمو بنفسك إلى مقام القدّيسين:

«اللّهمَّ وأيُّما عبدٍ نالَ منِّي ما حظرتَ عليهِ، وانتهكَ منِّي ما حجرتَ عليهِ، فمضَى بظلامتِي ميّتاً، أو حصلتْ لي قِبَلَهُ حَيّاً،

فاغفرْ لَهُ ما ألمَّ بهِ منِّي، واعفُ لهُ عمّا أدبرَ بهِ عنِّي، ولا تقفهُ على ما ارتكبَ فيَّ، ولا تكشفهُ عمّا اكتسبَ بي، واجعلْ ما سمحتُ بهِ منَ العفوِ عنهمْ، وتبرَّعتُ من الصدقةِ عليهمْ أزكى صدقاتِ المتصدِّقينَ، وأعلى صِلاتِ المتقرِّبينَ، وعوِّضني منْ عفْوي عنهُمْ عفوَكَ، ومنْ دعائِي لهمْ رحمتَكَ؛ حتّى يسعَدَ كلُّ واحدٍ منّا بفضلِكَ» .

وما أبدع هذه الفقرة الاَخيرة، وما أجمل وقعها في النفوس الخيِّرة؛ لتنبيهها على لزوم سلامة النيّة مع جميع الناس، وطلب السعادة لكلّ أحد حتّى من يظلمه ويعتدي عليه.

 ومثل هذا كثير في الاَدعية السجادية، وما أكثر ما فيها من هذا النوع من التعاليم السماوية المهذِّبة لنفوس البشر لو كانوا يهتدون.

المصدر:مركز الامام الصادق للدراسات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى