مقالات

التحذير من رواية تأبير النخيل

▪عدنان الجنيد

إن رواية تأبير النخل – كما ستأتي – اشتهرت شهرة كبيرة بين أوساط المسلمين ، وأصبحت تُدرّس في المناهج الدراسية ، كل ذلك كي ينسبوا الجهل إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – في الأمور المدنية، حتى استدل بها الكثير من الفقهاء والعلماء والباحثين المعاصرين على نسبة الأخطاء إلى رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فقد قالوا : “لا يجب اتباعه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في غير الأمور الدينية ، لأنه يخطئ ويصيب، وهو مجتهد في مثل هذه الأمور ،وأما في حال رسالته فيجب اتباعه صلى الله عليه وآله وسلم “

قلت :وكلامهم هذا باطل، وذلك لأننا مأمورون بالتأسي به – صلى الله عليه وآله وسلم – بأقواله وأفعاله وأحواله، قال تعالى :(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب : 21]

ولهذا كان الصحابة – رضوان الله عليهم – حريصين على الاقتداء به ، ليس في العبادات فحسب ، بل وحتى في مأكله ومشربه ،وفي مخرجه ومدخله ومشيته وقعوده وقيامه ،وفي كل أمور حياته ..

كانوا مهتمين بأقواله وأفعاله ،لأنها تعنيهم ،كيف لا وهو كان محور حياتهم الدينية والمدنية !!.. ولهذا حرصوا على إحصاء أقواله وأفعاله وكل تصرفاته..

فليت شعري كيف – بعد هذا – يقال بأنه – صلى الله عليه وآله وسلم – مجتهد، والمجتهد يخطئ ويصيب ، وقوله – صلى الله عليه وآله وسلم – هو الحجة البالغة ، والدليل القاطع الذي يعتمده جميع المجتهدين والمحققين .

أما رأي المجتهد فيحتمل في حقه الخطأ والصواب على السواء ..

وإن شاء الله سوف نفرد مقالاً خاصاً في الرد عليهم في قولهم : ” إنه لا يجب اتباعه – صلى الله عليه وآله وسلم – في غير الأمور الدينية لأنه ،يخطئ ويصيب وهو مجتهد…الخ”

والذي يهمنا الآن هو إبطال رواية التأبير التي لا أساس لها من الصحة وإليك الرواية:

روى مسلم(1) بسنده عَن سمَاك عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ – بِقَوْمٍ عَلَى رُؤوس النَّخْلِ، فَقَالَ: «مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟» فَقَالُوا: يُلَقِّحُونَهُ، يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَيَلْقَحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا» ، قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ – بِذَلِكَ فَقَالَ: «إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا، فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» إه

قلت : إن رواية التأبير هذه جاءت بروايات أخرى مختلفة الألفاظ، تدل على اضطرابها ، وعلى أن رسول الله بريئ من هذه الرواية المنسوبة إليه..

فهذه الرواية تقول : إن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم -قال – عندما رأى أهل المدينة يلقحون نخيلهم – :”مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا» ، بينما في رواية أخرى(2) قال :”لو لم تفعلوا لصلح ” ، وفي رواية أخرى(3) قال :”ما أرى اللقاح شيئا” ، وفي رواية أخرى(4) قال – أيضا – : ” لعلكم لو لم تفعلوا لكان خيرا “..

وعندمل تركوا تأبير النخل اعتمادا على ما أشار عليهم رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – من ترك التأبير ، لم تنتج نخيلهم ، فأخبروه ، فكان جوابه- بزعمهم – كما في الرواية الآنفة :”إنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا، فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ».. 

بينما في الروايات الأخريات كان جوابه كالتالي :

-” أنتم أعلم بأمر دنياكم “(5)

-” ماأنا بصاحب زرع ولانخل لقّحوا “(6)

-” إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به ، فإذا كان من أمر دينكم فإليَّ “(7)

-” إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر “(8)

-” لاتؤاخذوني بالظن “(9)

-“وَالظَّنُّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ’ وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ”(10)..

قلت : فهذا الاختلاف والاضطراب يدل على عدم صحة هذه الرواية ، ناهيك عن أن سلسلة رواة أسانيدها بعضهم مجهولون والبعض الآخر متهمون ومخلطون ، مثل هشام بن عروة ، وحماد بن سلمة ، وسماك بن حرب (11)

هذا ولقد أعترف الإمام النووي – رحمه الله – بأن بعض الرواة تصرف في متن الرواية من حيث الزيادة 

وهذا يدل على أن الرواية رويت بالمعنى ولم ترد بلفظه – صلى الله عليه وآله وسلم – محققاً، فقد قال في شرحه لصحيح مسلم ـ بعد كلام له ـ ما نصه:”مع أن لفظة ـ الرأي ـ أي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما أنا بشرٌ إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر» إنما أتى بها عكرمة على المعنى، لقوله في آخر الحديث: «قال عكرمة: أو نحو هذا»، فلم يخبر بلفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم محققاً ” (12).

وكذلك نجد هذه الرواية فيها إشكال عند كثير من العلماء منهم: “جمال الدين بن الحاجب، وسيف الدين الآمدي، وصفي الدين الهندي، وأبي حامد الغزالي – رحمه -“(13)

* حجج دامغة تبطل الرواية من أساسها :

إولاً : كيف يجهل رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – عادة تأبير النخل ،وهو الذي عاش في جزيرة العرب ،ونشأ بين ظهرانيهم ،وكان عارفاً بأحوالهم الزراعية والتجارية والاقتصادية ؟!! بل عارفُ حتى بأخبار شعوب الدول القريبة من الجزيرة العربية ، أو البعيدة ، بدليل أنه أشار إلى أصحابه بالهجرة إلى الحبشة قائلاً لهم : “إن بها ملكاً عادلا لايظلم عنده أحد ” 

أفيجهل – صلى الله عليه وآله وسلم – عادة تأبير النخل التي كانت معروفة عند قومه بالجزيرة، وكان يعلمها الصغير والكبير ولايجهلها أحد؟!..

فهل بعد أن بلغ من العمر خمسين عاما صار يجهل تأبير النخل باعتبار أن حادثة تأبير النخل كانت في المدينة؟!!..

ثانياً : كيف يندم رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – على قوله عندما أمرهم بترك تأبير النخل – ولمّا لم تصلح – ندم وقال – كما في رواية مسلم السابقة – : ” إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا، فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»

يعني إذا حدث عن الله فإنه لن يكذب وأما إذا حدثهم عن أمور الدنيا فقد يكذب – والعياذ بالله – !!..كما يفهم من الرواية..

فإذا كان – حسب هذه الرواية – يقول باطلا أو خلاف الصواب ، فكيف يصح هذا وهو الذي أمرَ عبدالله بن عمرو بن العاص أن لا يُمسك عن كتابة كل ما يقوله؛ لأنَّه لا يقولُ إلَّا حقَّاً؟! فلو كان بعض ما يقوله باطلاً لنبَّههُ إلى الإمساك عن كتابة ما يتعلَّقُ بأمور الدنيا، مثلاً. روى أحمد بن حنبل في مسنده(14) بإسناده عن عبدالله بن عمرو بن العاص: ” كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم – أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله، ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا.. فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق”إه

إذاً فهو- صلى الله عليه وآله وسلم – لا يقول إلاَّ حقاً، ولا يتكلم إلاَّ صدقاً ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)، فجميع الأنبياء صادقون في أقوالهم، وأفعالهم، وحركاتهم، وسكناتهم، فآراؤهم صائبة، وألفاظهم صادقة، فلو تكلموا بخلاف الواقع لما كنا مأمورين بالاقتداء بهم، كذلك لا يقال في حقه صلى الله عليه وآله وسلم أنه اجتهد في قضية تأبير النخل، وذلك لأن المجتهد يخطئ ويصيب، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يستحيل في حقه الخطأ؛ لأنه لا ينطق إلاَّ عن الله تعالى.

ثالثاً : إذا كان النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – يجهل عادة تأبير النخل – على سبيل فرض صحة الرواية – فكيف ينهاهم أو يأمرهم بترك تأبير النخل بدون علم أو بمجرد الظن والله تعالى يقول :(وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)[الإسراء : 37] ؟!!..

فالله تعالى ينهى عن تتبع ما لا علم للإِنسان به ، أو عن أن يقول الرجل ما لا يعلم ، فإن ذلك يعد من فضول الكلام.

فهل يُعقل أن رسول الله يخالف كتاب الله ، مع أنه كان القرآن المتحرك..؟!!

رابعاً : هذه الرواية بينت أن علمه – صلى الله عليه وآله وسلم – قاصر عن معرفة أمور الدنيا، بدليل خطئه في إرشادهم بعدم تأبير النخل، هكذا قال بعض الفقهاء، بحسب مفهوم ظاهر الرواية. وهذا مردود لأمرين:

1ـ أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلم وأعرف خلق الله على الإطلاق، فقد أفاض الله تعالى عليه العلوم النافعة الكثيرة، والمعارف العالية الوفيرة. 

وقد أعلن الله سبحانه وتعالى بسعة علمه صلى الله عليه وآله وسلم، وأعلم بعظيم فضله فقال سبحانه: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا )[النساء : 113]

قلت : إذا كان الله تعالى يقول عن كتابه 🙁 مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)[الأنعام : 38] ، ويقول : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)[النحل : 89]

وكلمة شيئ منكرة وهذا يعني أن القرآن بيان لكل شيئ بدون استثناء

وإذا كان ذلك كذلك فاعلم أنه – صلى الله عليه وآله وسلم – قد تحقق بهاتين الآيتين بل وبجميع آيات القرآن فعلم معانيها وخصائصها وحقائقها وإشاراتها ودلالاتها وأسرارها ومضامينها وعلمه بذلك مالايعلم قدره ولايحيط بكمية ماهنالك إلا الله الذي أفاض عليه ذلك – صلى الله عليه وآله وسلم –

أفيعقل بعد هذا أن تخفى عليه صلوات الله عليه وآله عادة تلقيح النخل !!

2 – جاءت الأحاديث دالة على علمه – صلى الله عليه وآله وسلم – بجميع أمور الدنيا والآخرة، وأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد أطلعهُ على الغيب المكنون، وعلى ما كان وما يكون.

فقد روى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله قد رفع لي الدنيا، فأنا أنظر إليها، وإلى ما هو كائن فيها إلى يوم القيامة، كأنما أنظر إلى كفي هذه»(15).

وأخرج مسلم في «صحيحه»(16) عن أنس بن مالك أن الناس سألوا نبيَّ الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال: «سلوني لا تسألوني عن شيء إلاَّ بيّنته لكم»، فلما سمع ذلك القوم أرمُّوا ورهبُوا أن يكون بين يدي أمرٍ قد حضر، قال أنس: فجعلتُ ألتفت يمنياً وشمالاً فإذا كلّ رجلٍ لافٌ رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجلٌ من المسجد كان يلاحي فيدعى لغير أبيه، فقال: يا نبيّ الله من أبي ؟ قال: «أبوك حذافة»، ثم أنشأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، عائذاً بالله من سوء الفتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لم أر كاليوم قطّ في الخير والشر، إني صورت لي الجنة والنار فرأيتهما دون هذا الحائط».

وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يحرِّك طائر جناحيه في السماء إلاَّ ذكر لنا منه علماً».

قلتُ: فهذه الأحاديث وغيرها لهي دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان واسع العلم في نواحي أصناف العالم كله، أفيخفى عليه صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذا احتياج النخل إلى تلقيح ؟!

لا شك أنَّ هذه الرواية غير صحيحة 

وحقيقةً أنا أرى أن هذه الرواية موضوعة؛ لأن فيها نسبة الجهل إليه – صلى الله عليه وآله وسلم – أيضاً ـ فمن غير المعقول أنه – صلى الله عليه وآله وسلم – ينهى عن أمر كوني ـ تأبير النخل ـ فقد جاء لإقامة الأسباب، لا إلى تعطيلها، بدليل أنه تصالح مع من بقي في خيبر على أن يأبروا النخل، ويبقوا في خيبر، ولهم نسبة من ذلك، وهذا ثابت في كتب السِّير.

وأخيراً نقول : على فرض صحة الرواية لا يقال بأنه أخطأ في قضية تأبير النخل:

فهناك بعض العلماء أثبتوا هذه الرواية إلاَّ أنهم نفوا أن يكون النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أخطأ في قضية تأبير النخل منهم الشيخ عبدالله سراج الدين، فقد قال ما نصه: ” فمن هذا الحديث فهم بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد يخطئ في أمور الدنيا، وراح يقول: أخطأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كذا وأخطأ في كذا !!، ولكن الحق أحقُّ أن يتبع، وذلك أن أقواله صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله يُفسِّر بعضها بعضاً، ويشبه بعضها بعضاً، وأن الله تعالى حفظه عن الخطيئة، فنقول وبالله التوفيق: 

أولاً: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد نشأ في تلك الأراضي المباركة التي هي منابت النخيل، وتربى بين قوم يعلمون فنون زرع النخيل، وما يتطلبه من عنايات ولقاحات، وكيف يتصور في حقه صلى الله عليه وآله وسلم أن تخفى عليه تلك العادة المطّردة في إنتاج النخيل، ولزوم التلقيح له بموجب الأصول الزراعية ؟! في حين أن ذلك ليس من خفايا معلومات الزراعة لشجر النخيل، ولا من غوامضها، إذاً لا بد وأنه يعلم ذلك كما يعلمون، ولكن أراد أن يظهر لهم أمراً لا يستطيعون نيله بأنفسهم.

ثانياً: إن الذي يدلنا على ذلك الأمر الآخر الذي أراده صلى الله عليه وآله وسلم هو النظر في أشباه هذه الواقعة الصادرة منه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك حديث «ناولني الذراع»، ففي المسند عن أبي رافع قال: صُنع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاةٌ مصليَّة فأتي بها فقال: «يا أبا رافع ناولني الذراع»، فناولته ثم قال: «ناولني الذراع»، فناولته ثم قال: «ناولني الذراع»، فقال: يا رسول الله هل للشاة إلا ذراعان ؟! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لو سكت لناولتني منها ذراعاً ما دعوتُ به» قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعجبه الذراع. قال في «مجمع الزوائد»(17): رواه أحمد والطبراني من طرق، وقال في بعضها: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أصلي له شاةً فصليتها، ورواه في «الأوسط» باختصار، وأحد إسنادي أحمد حسن.

فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ناولني الذراع» في المرة الثالثة ـ مع العلم أن الشاة لها ذراعان ـ إنما أراد أن يظهر أمراً معجزاً فيه الإكرام، وفيه البرهان، وفيه الإشهاد بالعيان، ولكن لما لم يجد محلاً قابلاً لم تظهر تلك المعجزة.

وهكذا في حادثة تأبير النخل، لما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوم يؤبرُّون النخل أراد أن يكرمهم ويتحفهم، وأن يظهر لهم معجزة خارقة للعادة المطردة في إصلاح النخيل بالتأبير، فيكرمهم خاصة بصلاحه دون تأبير؛ إذ هو صلى الله عليه وآله وسلم ممن يعلم بموجب العادة حاجة النخيل إلى تأبير كما يعلمون؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم بينهم مطلع على أمورهم. 

ولكن لمَّا لم تقبل قلوب بعض أولئك النفر، ولم تستسلم كل الاستسلام إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لو لم تفعلوا ـ أي التأبيرـ لصلح»، بل وقفوا عند معلوماتهم الدنيوية المطردة من فن زراعة النخيل، وأن صلاحه موقوف على التأبير، فلم يلق الكرم محلاً قابلاً فرجع …”(18) انتهى كلامه ملخصاً ، وهو مستوحىً من كلام الشيخ عبدالعزيز الدباغ المذكور في «الإبريز»

والخلاصة أن حديث التأبير واحد من الموضوعات المكذوبة مع أنه يتعارض مع ظاهر القرآن وجوهر الإسلام، وقد أطلنا الكلام فيه وهو حديث ساقط لا يستحق المناقشة.

………………………………

الهامش

(1) “صحيح مسلم” بشرح النووي [15/116ـ117ـ118] في الفضائل، باب ” وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكر صلى الله عليه وآله وسلم في معايش الدنيا على سبيل الرأي “.

برقم (2361)

(2) ” صحيح مسلم ” برقم(2363)

(3)رواه الطحاوي في ” شرح مشكل الآثار” [425/4]

(4) “صحيح مسلم ” برقم (2362)

(5) ” صحيح مسلم ” برقم(2363)

(6)رواه الطحاوي في ” شرح مشكل الآثار” [425/4]

(7)سنن ابن ماجة برقم (2471)

(8) “صحيح مسلم ” برقم (2362)

(9)المرجع السابق برقم (2361)

(10)سنن ابن ماجة برقم(2470)

(11) كان من المنحرفين عن الإمام علي – ع – انظر كلامنا عن عروة في مقالنا السابق ” تفنيد نسبة الإعراض والعبوس لمن بعث لتزكية الأرواح والنفوس ” فقد تكلمنا عنه بما فيه الكفاية 

وأما حماد بن سلمة فقد انفرد بالرواية عن هشام بن عروة عن أبية عن عائشة 

قال عنه البيهقي : لما كبر ساء حفظه فلذا تركه البخاري انظر ” تهذيب التهذيب ” لابن حجر[14/3]الطبعة الثالثة 

وكذا سماك بن حرب قد مخلط قد تغير

(12) انظر: « صحيح مسلم بشرح النووي »: (ج15/ص116)

(13) ” الإبريز ” ص194.

(14)مسند أحمد،[ ج11، ص57]، برقم ( 6510)، قال المحقق شعيب الأرناؤوط: (إسناده صحيح) ورواه – ايضا – الحافظ أبو داود في سننه برقم(3646) والحافظ الدارمي في سننه برقم (501) قال المحقق حسين سليم أسد : إسناده صحيح

(15) « حلية الأولياء » لأبي نعيم: (6/101) دار الكتاب العربي، بيروت، ط4، 1405هـ.

(16) ” صحيح مسلم بشرح النووي ” [ ج15/ص114ـ115]، وانظر ص111ـ112ـ113ـ116

(17) « مجمع الزوائد » للهيثمي: (8/275) طبعة دار الفكر، بيروت، 1412هـ/1992م.

(18)” سيدنا محمد رسول الله ” للشيخ عبدالله سراج الدين ص 367 – 370

🔅من ارشيف2000م

#المركزالاعلاميلملتقى_التصوف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى